الكتاب المسموع - قنديل أم هاشم 10
قنديل أم هاشم
يحيى حقي
استمع
10
ومرت أيام كثيرة وإسماعيل لا يغادر الفراش. ركبه العناد فأدار وجهه للجدار لا يكلم أحدًا ولا يطلب شيئًا. ولما أفاق قليلاً بدأ يفكر: هل يعود إلى أوربا ليعيش وسط أناس يفهمون الحياة؟ إن الجامعة عرضت عليه منصب مساعد أستاذ فرفضه بغباوة، ولعلهم يقبلونه الآن إذا طلب. ولم لا يتزوج هناك، ويبني لنفسه أسرة جديدة بعيدًا عن هذا الوطن المنكود؟ لماذا ترك إنجلترا بريفها الجميل، وأمسياتها الهنية، وقسوة شتائها الجبار، وجاء لبلد يفرون فيه من بعض الرذاذ كأنما تحيق بهم نكبة أو يدهمهم طوفان؟ أما يدرون أن هناك وجوهًا صامتة ونظرة ثابتة، تسير تحت المطر والثلوج، تقاوم الأعاصير؟ وما فائدة الجهاد في بلد كمصر ومع شعب كالمصريين، عاشوا في الذل قرونًا طويلة فتذاوقوه واستعذبوه؟
ثم أخذته غفوة، واختلط عليه الأمر. إنه كالطير قد وقع في فخ، وأدخلوه القفص، فهل له من مخرج؟ يشعر بجسمه وقد شد إلى هذه الدار التي لا يطيقها، وربط إلى هذا الميدان الذي يكرهه، فمهما حاول فلن يستطيع فكاكا.
واستيقظ إسماعيل ذات صباح وهو يشعر بنشاط عجيب. في مثل هذه الأحوال يقفز الشخص من النقيض إلى النقيض فجأة وبلا سبب ظاهر. وخرج من الدار مبكرًا، وعاد يحمل حقيبة، ملأى بالزجاجات والأربطة والمراود، وبدأ علاجه لفاطمة كما يقتضيه طبه وعلمه. لقد عالج في أوربا أكثر من مائة حالة مثلها فلم يخنه التوفيق في واحدة. فلماذا لا ينجح مع فاطمة أيضًا؟ وسلمت الفتاة إليه نفسها مطمئنة، لا يهمها مرضها بقدر ما يهمها أن تكون بين يديه، موضع عنايته ورفقه. وتجنبه أبوه وأمه ولم يعودا يعارضانه في شيء إشفاقًا على صحته.
في الصباح تجلس فاطمة بين يديه وقبل النوم. ومر يوم وثان وثالث ورابع، وأسبوع وآخر، وعيون فاطمة على حالها. ثم إذا بها تسوء فجأة وتلتهب، ويختلط سوادها بالبياض.
ضاعف إسماعيل عنايته، وكرر أنواع الأدوية، وقلب جفونها ومسّ، وقطر ومرهم، وكشط ومسح، فما أجدى طبه نفعًا. إنه ليس بالجاهل، يرى أمامه فاطمة اقتربت من العمى ولا ينقذها في علمه حيلة.
أخذها إلى زملائه في كلية الطب، وعرضها على الأساتذة فوافقوه على طريقته في العلاج، ونصحوه بالاستمرار.
فقاوم وثابر، وأخيرًا استيقظت فاطمة على صباح وهي تفتح عينيها ولا ترى. لقد انطفأ آخر بصيص تتعزّى به.
ليست هناك تعليقات:
حتى تصبح عضوا في الموسوعة المدرسية انزل إلى أسفل الصفحة