الكتاب المسموع - قنديل أم هاشم 5
قنديل أم هاشم
يحيى حقي
استمع
5
وخرج إسماعيل يودّع بعض أصدقائه، ثم انتهى إلى الميدان وقد اقترب الغروب. تتلقف آذانه ما أمكنها من نداءات الباعة التي ألفها، وخيل إليه أن في الميدان حركة غير التي عهد. كأن القوم أصبحوا أسرع مشية. ما لهم لا يلوون على شيء؟ أ فليست الحياة إلاّ سباقًا؟ كم ودّ لو وقف واحد من المندفعين وبادله الحديث. لم يلتفت إليه أحد. في الميدان حركة النمل تتعارض وتتحاذى وتضرب في كل اتجاه. قادته قدماه إلى المقام، فوجده ساكنًا على غير عادته. الشيخ درديري واقف مطأطئ الرأس، كأنما هو متعب أو تسلط عليه خوف ورهبة. دار إسماعيل حول المقام، حتى إذا جاء للسور الذي يفصل مكان النساء عن الرجال، انتبه إلى شبح واقف وراءه. هي فتاته السمراء ألصقت جبينها على السور. سمِّر إسماعيل في مكانه وسمعها تقول هامسة:
- يا أم هاشم: يا ستارة على الولايا، لا تغضي عينيك ولا تشيحي بوجهك. تمد إليك يد مسترحمة فخذيها. إن الله طهرك وصانك وأنزلك الروضة. وإن قلبك لرؤوف. إذا لم يقصدك المرضى والمهزومون والمحطمون، فمن غيرك يقصدون؟ إذا نسينا فاذكري أنت! متى يُمحى المقدر علي؟ أيرضيك أن جسدي ليس مني، فما أشعر بالألم وهو ينهشه نهشًا، ها هي روحي على عتباتك تتلوى وتتمرغ مصروعة. تريد أن تفيق، منذ غادرني رضا الله وأنا كالنائم يركبه الكابوس، يقبض في يد واحدة على الموت والحياة! رضيت لحكمه وأسلمت نفسي، ولن أضيع وأنت هنا معنا. أفيطول الأمد، أم رحمة الله قريب؟ نذرت لك يوم يتوب المولى عليّ أن أزين مقامك الطاهر بالشموع. خمسين شمعة، يا أم هاشم يا أخت الحسين!
ووضعت الفتاة شفتيها على سور المقام. ليست هذه القبلة من تجارتها، بل من قلبها. ومن ذا الذي يجزم بأن أم هاشم لم تسع إلى السور وقد هيأت شفتيها من ورائه لتبادلها قبلة بقبلة؟
همّ إسماعيل أن يخرج من المسجد ليلحقها ويكلمها، فلم تتحرك قدماه. أراد أن يفضي لها بكل ما في نفسه، إن لحظة الانتزاع من الأسرة والوطن، لمواجهة الغربة والوحدة والمجهول تضني أعصابه وتهصر قلبه، لماذا يهتز لمرآها دون سائر النساء؟ أَواهم هو؟ إلاّ أن صوتًا خفيًّا يريد أن ينطق في قلبه ويتكلم ويرشده إلى السر، ولكن هناك ألف غطاء وغطاء تكتم هذا الصوت وتخفته، ولعل الفتاة لم تره ولم تشعر به. وهرب إسماعيل من حيرته إلى الشيخ درديري وحديثه الثرثار ينزل بلسمًا على فؤاده. وقفته في صمت أمام المقام وتحت ضوء القنديل، ويده معلقة بالسور تارة، ماسحة على وجهه تارة أخرى، هي آخر ما يذكره عن رحيله من القاهرة. فكل ما حدث له بعد خروجه من المقام شمله من أخمص قدميه إلى رأسه، كالتيار المندفع العنيف، يتأرجح فيه ملقى القياد، مقلوب الوضع، فقد خلاله الزمن ترتيبه، والمرئيات اعتدالها، والأصوات صدقها وفروقها. وداع الأسرة، وما أمره! في الدار وسط النحيب والبكاء، والمحطة، والقطار ثم الميناء وحركته والباخرة المجهولة وصفيرها. إني أتخيله صاعدًا سلم الباخرة شابًّا عليه وقار الشيوخ، بطيء الحركة، غرير النظرة، أكرش، ساذجًا، كل ما فيه ينبئ أنه قروي مستوحش في المدينة. أقسم لي عمي إسماعيل فيما بعد أنه كان يحمل في أمتعته قبقابًا، فقد سمع الشيخ رجب أن الوضوء في أوربا متعذر لاعتياد الناس لبس الأحذية في البيوت. كما وصف لي وهو يبتسم سراويله وطولها وعرضها وتكتها المحلاوي. وكان معه أيضًا سلة ملأى بالكعك و"المنين" من عمل أمه وفاطمة النبوية.
وسافرت الباخرة.
ليست هناك تعليقات:
حتى تصبح عضوا في الموسوعة المدرسية انزل إلى أسفل الصفحة