نهضة اليابان
الإمبرياليّة الاستعماريّة والأزمة الأوروبيّة
نهضة اليابان
استطاع اليابان أن يتحوّل في أقلّ من نصف قرن إلى دولة عصريّة استعماريّة بعد أن كان دولة متخلّفة اقطاعيّة وذلك نتيجة لتفتّحه على الغرب وتمسّكه بأصالته الحضارية.
I- تفتح اليابان :
ظلّ اليابان منغلقا على نفسه متخلّفا يخضع للتقاليد الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة العتيقة. ولكنّه عرف في النصف الثاني من القرن XIX نهضة شملت مختلف ميادين الحياة جعلت منه دولة قويّة متقدّمة أصبحت فيما بعد تضاهي الدول الأوروبيّة المصنعة.
1)- اليابان في منتصف القرن XIX :
حافظ اليابان بعد قطع جميع العلاقات مع الخارج منذ القرن XVII على تنظيم اجتماعي واقتصادي وسياسي طريف من ذلك :
أ- الوضع الاجتماعي والاقتصادي :
كان المجتمع الياباني يتألّف من عدّة طبقات اجتماعيّة :
- الطبقة الممتازة :
وتتألف من النبلاء العسكريين الذين ينقسمون إلى فئتين :
* الفئة الأولى : "الدايميو" (Daimios) وعددهم 287 يمثّلون رؤساء العشائر "كليم" (Clem) ويملكون الأراضي ويعتبرون أسيادا في اقطاعاتهم.
* الفئة الثانية : "الساموراي" (Samourais) وعددهم 500.000 وهم جنود الدايميو الذين أثقلت كواهلهم الديون فجنحوا إلى النهب والسلب.
- الطبقة الشعبيّة :
تمثل الطبقة الشعبية 85% من مجموع السكان وأغلبهم من الفلاحين الاقنان ومن التجار وأصحاب الحرف.
واستطاع بعض الفلاحين الأثرياء السيطرة على القرى كما تمكن كبار التجار وأصحاب الصناعات المنضوين في نقابات الحرف من السيطرة على حياة البلاد الاقتصاديّة فزعزعوا النظام الإقطاعي.
ب- الوضع السياسي :
تطوّر النظام السياسي في اليابان فانتقلت السلطة من الإمبراطور (ميكادو – (Mikado) إلى "الشوغون" زعيم طبقة الدايميو فأصبح يسيّر شؤون الدولة عن طريق الوراثة، واستمر هذا النوع من الحكم مدّة قرنين ونصف، فأصبحت بذلك سلطة الإمبراطور روحية بحتة.
ج- الحياة الدينية :
كانت "الشانتوية" (Shintoisme) هي الديانة الشائعة في اليابان المعتمدة على تمجيد الأجداد والإمبراطور فغرست في نفوس اليابانيين حبّ الانضباط وروح التضحية واحتقار الموت من أجل الوطن والإمبراطور.
2)- تفتح اليابان (1853/1858) :
كان اليابان منغلقا على نفسه منذ القرن XVII يعيش في عزلة تامة عن العالم الخارجي، وفي سنة 1842 عندما فتحت الصين أبوابها للأجانب، بدأت الدول الأوروبيّة تتطلع للسيطرة على اليابان وجعله مرسى لأسطاليها ففرضت عليه عدّة معاهدات أهمّها :
أ- معاهدة 1854 :
بادرت الولايات المتّحدة الأمريكيّة بالضغط على اليابان حتى يفتح موانيه للأجانب، فهدّد الأميرال "بيري" (Perry) مدينة يادو (Yedo) مرتين (1853 و1854) فاضطرّ اليابان عندئذ إلى عقد معاهدة سنة 1854 التي تمّ بمقتضاها فتح ميناءين للولايات المتحدة الأمريكية.
ب- معاهدة 1858 :
تمكّنت بعض الدول الأوروبيّة (روسيا، بريطانيا، فرنسا، هولندا) من التوقيع على معاهدات أخرى مع اليابان ترمي كلها إلى تحقيق نفس الغرض. وفي سنة 1858 فرضت الولايات المتحدة والدول الأوروبيّة على اليابان معاهدة جديدة نصت على ما يلي :
- فتح خمسة موان للأجانب
- انتصاب قناصل الدول الأجنبية في اليابان
- السماح للأجانب بتعاطي التجارة في اليابان وتوريد البضائع إليه.
3)- نتائج التفتح :
كان لتفتح اليابان على العالم الخارجي نتائج بعيدة المدى على الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة.
أ- النتائج الاجتماعيّة والاقتصاديّة :
أحدثت تلك الاتفاقيات صدى عميقا وتأثيرا على الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، فقد ساءت حالة التجار وأصحاب الصناعات والفلاحين نتيجة للمنافسة الأوروبيّة فارتفعت الأسعار وتدهورت الأوضاع الاقتصاديّة فانتشر البؤس وعمّ الاستياء لدى مختلف الأوساط اليابانية.
ب- النتائج السياسيّة :
اشتدّت المعارضة وعاب النبلاء (دايميو وساموراي) على الشوغون رضوخه واستسلامه إلى الأجانب، فظهرت حركة معارضة قويّة وتعدّدت الاعتداءات ضدّ الأجانب وتدهور نفوذ الشوغون من الناحية السياسية.
خشي نبلاء الجنوب "دايميو" من عودة قوة الشوغون إثر اعتلاء عرش الإمبراطورية شاب لم يتجاوز الرابعة عشر من العمر هو "ميتسوهيتو" (Mutso-Hito) وذلك سنة 1867. لذا قام النبلاء بدفع الامبراطور الشاب إلى إلغاء نظام الشوغون سنة 1868 فاندلعت حرب بين أنصار كل منهما انتهت بانتصار الامبراطور فقام بإصلاح الأوضاع في البلاد ونقل عاصمته من مدينة كيوتو (Kioto) إلى مدينة (Yedo) طوكيو (Tokio) الحالية، فدخل اليابان عهد الميجي (Meiji) أي عهد النور الذي سيجعل منه دولة عصرية قوية.
II- عصر النوّر وتطوّر اليابان :
قام اليابان إثر عودة النظام الامبراطوري بثورة على مختلف الأوضاع التي كان يتخبط فيها منذ قرون، أدت إلى تحول اجتماعي وسياسي واقتصادي جعل من هذا البلد المتخلف بلدا متقدما عصريا أصبح مثالا يحتذى به حتى اليوم.
1)- التحوّل الاجتماعي :
تحوّل المجتمع اليابان من مجتمع إقطاعي مختلف إلى مجتمع عصري يتساوى فيه الناس جميعا أمام القانون.
أ- إلغاء النظام الإقطاعي :
بادر بعض "الدايميو" بالتخلي عن حقوقهم الإقطاعية التي كانوا يتمتعون بها، وسار على منوالهم بقية النبلاء وقرر الامبراطور سنة 1871 القضاء على نظام الطبقات الاجتماعية فأصبح كل اليابانيين متساوين أمام القانون وأصبح الفلاح يتمتع بحق ملكية الأرض.
ب- التنظيمات :
قام الإمبراطور بإدخال عدة تنظيمات على مختلف أجهزة الدولة، من ذلك :
- تقسيم البلاد إلى 47 ولاية على رأس كل منها موظف يعينه الإمبراطور
- جعل الخدمة العسكرية إجبارية وتكليف الفنيين الفرنسيين والألمان بتكوين إطارات الجيش
- تشجيع التعليم الابتدائي الذي شمل سنة 1885 ما يقارب من 60% من مجموع الأطفال البالغين سن الدارسة.
وهكذا قام الإمبراطور بمساعدة فئة قليلة من النبلاء بإدخال عدة إصلاحات رغم المعارضة الشديدة التي لقيها الساموراي.
3)- الإصلاحات السياسيّة :
عرف اليابان تطورا كبيرا في الميدان السياسي، فقد وعد الامبراطور سنة 1881 بمنح البلاد دستورا وفعلا سافر الأمير "ايتو" (Ito) إلى أوروبا فأعجب بالنظام السياسي الألماني وعاد مشجعا الامبراطور على منح البلاد دستورا فتم ذلك سنة 1889.
أ- السلطة التنفيذية :
أصبح الإمبراطور يحكم البلاد بمساعدة مجلس الوزراء المسؤول أمامه مباشرة ومساعدة مجلس استشاري.
ب- السلطة التشريعية :
أصبحت السلطة التشريعية بيد مجلسين :
- مجلس النواب المنتخب من طرف السكان الذين يدفعون الضرائب
- مجلس الأعيان (Chambre des pairs) ويضم الأمراء والنبلاء وبعض الأعضاء الذين يعينهم الإمبراطور.
وقد احتفظ الإمبراطور رغم ذلك بسلطة واسعة إذ كان له مجلس خاص "الجنرو" (Genro) لم يقرّه الدستور ولكن كان له الدور الأساسي في تسيير شؤون الدولة.
وهكذا احتفظ اليابان بنظامه الاستبدادي رغم هذه الإصلاحات المتأثرة بالطابع الأوروبي.
3)- التطوّرات الاقتصاديّة :
حاولت الدولة اليابانية تطوير الحياة الاقتصادية أملا في تحقيق استقلالها السياسي والاقتصادي فسنت لذلك عدة قوانين، وشجعت الخواص على بعث المشاريع الاقتصادية، وقامت بمد الخطوط الحديدية وأنشأت المصانع العصرية فترتب عن ذلك تطور اقتصادي عظيم.
أ- التصنيع :
واجهت سياسة التصنيع عراقيل تمثلت في :
- حرمان اليابان من توظيف رسوم قمرقية عالية على المصنوعات المستوردة حسبما نصت عليه اتفاقية 1854، وهذا ما منع اليابان من حماية صناعته.
- قلّة رؤوس الأموال وخوف اليابان من الاعتماد على سياسة القروض التي قد تؤدي به إلى فقدان استقلاله.
- ضعف وسائل النقل وقلتها.
ولكن هل حالت هذه العراقيل دون تصنيع اليابان؟ لقد انطلق اليابان في سياسة التصنيع رغم كل هذه الصعوبات وساعده على ذلك
- تصميم اليابانيين على الخروج من التخلف والتحرر من السيطرة الأجنبية.
- كثرة اليد العاملة المتكونة من الفلاحين والحرفيين المفلسين والفتيات وزهادة الأجور.
- استغلال اليد العاملة استغلالا فاحشا إذ كان العمال يشتغلون سبع عشرة ساعة في اليوم، وفي ظروف قاسية أدت إلى كثرة الوفيات.
- تجمع المؤسسات بشكل لا مثيل له في العالم من ذلك مواثقتا (Trusts) متسوي (Mitsui) و"ميتسوبيشي" (Mitsubishi) وهما من نوع المواثقات الأفقية والعمودية معا، فلقد شجعتهما الدولة فسيطرتا بفروعهما المتعددة على مختلف أنواع النشاط الاقتصادي (المناجم، المصانع، المغازات..).
وقد شملت سياسة التصنيع ثلاثة قطاعات رئيسية هي :
- صناعة الأسلحة لضمان استقلال البلاد.
- صناعة السفن للتخلص من الأساطيل الأجنبية التي احتكرت التجارة الخارجية.
- الصناعات التصديرية لتوفير الأموال اللازمة لاستيراد المواد الخام.
ولقد تمت هذه السياسة على مرحلتين أساسيتين هما :
* المرحلة الأولى : اهتمت ا لدولة في هذه المرحلة بتوفير طرق المواصلات وإنشاء المصانع المثالثة. فأنجزت أول خط حديدي سنة 1872 وبعثت أول مصنع مثالي للسفن سنة 1868 ثم تلته مصانع أخرى في "طوكيو" و"أوزاكا" سنة 1870 ومصنع للفولاذ سنة 1873.
* المرحلة الثانية : اتبعت الدولة منذ سنة 1880 سياسة تشجيع المؤسسات الاقتصادية وتمويلها، فتخلت عن مصانعها الخاصة "بنغازاكي" لفائدة مؤسسة ميتسوبيشي ومولت بعض مشاريعها ومشاريع مؤسسة متسوي.
ب- نتائج التطوّر الاقتصادي :
لقد بذل اليابان مجهودات عظيمة في ميدان التطور الاقتصادي إلا أن النتائج كانت متواضعة بصفة عامة، من ذلك :
- أنه بقي يستورد قسما كبيرا من المواد الغذائية رغم زيادة الإنتاج الزراعي
- وظل إنتاج الفحم الحجري غير كاف لا يتجاوز 22 مليون طن في السنة
- واستمر يعتمد على استيراد المواد الخام باستثناء النحاس، فكان يستورد 76% من حاجياته من الحديد
- وظل إنتاج الفولاذ ضئيلا لا يفي إلا بثلث حاجيات اليابان الصناعية لذلك واجهت مصانع ياواتا (Yawata) عجزا كبيرا رغم مساعدات الدولة المستمرة حتى سنة 1911
- ازدهرت صناعة النسيج (القطن والحرير)
- واجهت التجارة الخارجية صعوبات كبيرة في ميدان التصدير وذلك لقلة جودة البضائع ولم تجد رواجها إلا في الصين لانخفاض أسعارها.
وبدأ اليابان رغم كل ذلك بلدا صناعيا يعتمد في سياسته الاقتصادية على استيراد المواد الخام وتصدير المنتوجات الصناعية.
III - الامبرياليّة اليابانيّة :
اندفع اليابان منذ سنة 1893 نحو التوسع الاستعماري، وذلك لحماية استقلاله بالسيطرة على القواعد العسكرية التي تضمن له الدفاع عن نفسه، وحل مشكلة نموه الديمغرافي السريع إذ تطور عدد سكانه من 27 مليون نسمة سنة 1853 إلى 53 مليون نسمة سنة 1914، وكذلك ضمان تطور صناعته بإيجاد المواد الأولية الخام والأسواق التجارية لترويج منتوجاته، فخاض من أجل ذلك كله حروبا هي :
1)- الحرب الصينية اليابانية (1894-1895) :
اندفع اليابان لخوض هذه الحرب وذلك للسيطرة على كوريا (Corée) الغنية بمواردها المعدنية (الحديد) والزراعية (الأرز).
اندلعت الحرب سنة 1894 فانتصرت القوات اليابانية على الجيش الصيني وعقد صلح "سيمونوزاكي" (Simonoseki) سنة 1895 تحصل بمقتضاه اليابان على "فرموزا" وشبه جزيرة "لياوتونغ" (Liao Toung) وميناء بورث أرثر (Port Arhur) واعترفت الصين باستقلال كوريا و فتحت هذه الأخيرة موانيها للتجارة اليابانية. وقد أزعج هذا الانتصار روسيا فتدخلت مع ألمانيا وفرنسا وأرغمت اليابان على مراجعة ذلك الصلح فتخلت عن شبه جزيرة "لياوتونغ" وميناء "بورث أرثر".
2)- الحرب الروسيّة اليابانيّة (1904-1905) :
اندفع اليابان في حرب مع روسيا تحت تأثير المواثقات الاقتصادية ورغبة منه في محو الإهانة التي لحقته إثر مراجعة صلح "سيمونوزاكي" فاستعد عسكريا وديبلوماسيا وتحالفت مع إنقلترا سنة 1902 التي كانت ترغب في وضع حد للتوسع الروسي في الشرق الأقصى.
اندلعت الحرب يوم 7 فيفري 1904 دون سابق إنذار فاحتل الجيش الياباني "بورث أرثر" وأطرد الروس من "منشوريا" وحطم آخر أسطول روسي في "تسوشيما" (27 ماي 1905) فظهر التفوق العسكري الياباني برا وبحرا واضطرت روسيا إلى عقد صلح "بورتسموث" (Portsmouth) في 5 سبتمبر 1905 تخلت فيه لليابان عن "بورث أرثر" وعن الخط الحديدي بجنوب منشوريا.
وبدأت النوايا الاستعمارية اليابانية تتوضح وتتأكد بعد هذا الانتصار فقام اليابان :
- باستغلال فرموزا وكوريا ومنشوريا اقتصاديا.
- وبالتسرب إلى داخل الصين واستغلاله اقتصاديا عن طريق إنشاء البنوك والمؤسسات الصناعية.
- وباحتلال الممتلكات الألمانية في الصين والمحيط الهادي.
فأثارت هذه السياسة الاستعمارية مخاوف الولايات المتحدة الأمريكية التي رأت في اليابان أخطر منافس لها في الشرق الأقصى، فقامت بتحجير الهجرة اليابانية إلى الولايات المتحدة وبدأت العلاقات تتوتر بين البلدين، وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على المكانة التي أصبح عليها اليابان على الصعيد الدولي.
الخاتمة :
عرف اليابان منذ سنة 1868 فترة تطور سريع جعلت منه دولة كبرى عصرية، بفضل تفتحه على الغرب واقتباس نظمه من جهة وتمسكه بأصالته الحضارية من جهة أخرى، فحقق اليابان نهضة صناعية كبرى وانتصارات عسكرية رائعة جعلته يحتل مكانة دولية ممتازة.
محلاها
ردحذف