الاقتصاد الرأسمالي والمجتمع الغربي - الثورة الصناعيّة ونموّ الدول الغربيّة
الثورة الصناعيّة ونموّ الدول الغربيّة
الاقتصاد الرأسمالي والمجتمع الغربي
لم تقتصر الثورة الصناعيّة في ما أحدثته من انقلاب عظيم على مظاهر الحياة الصناعيّة بل تجاوزتها إلى جميع مظاهر الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
فقد أحدث استعمال الآلة البخاريّة في الميدان الصناعي تغييرا واضحا على الإنتاج الذي تزايد باستمرار ممّا أدّى إلى ظهور اقتصاد جديد يعتمد على رؤوس الأموال الضخمة لإنجاز المشاريع الصناعيّة الكبرى. فتحوّل النشاط الاقتصادي في النصف الثاني من القرن XIX من اقتصاد زراعي إلى اقتصاد صناعي رأسمالي.
فانقرض المجتمع القديم القائم على الزراعة والتعايش بين الحِرَفِيين والصنّاع وحلّ محلّه مجتمع صناعي متطوّر توتّرت فيه العلاقات الاجتماعيّة بين الطبقة البرجوازيّة والطبقة العمّاليّة.
I- الاقتصاد الرأسمالي :
كان للتطوّر الصناعي الأثر الواضح في تنمية رأس المال، فقد أدّى تزايد الإنتاج إلى انخفاض ثمن البضائع وكثرة انتشارها ممّا وفّر لأصحاب المؤسّسات الصناعيّة أرباحا طائلة استثمروها في مشاريع جديدة. فتطور الاقتصاد الأوروبي العصري في القرن XIX تطوّرا عظيما أدّى إلى تدعيم النظام الرأسمالي الذي اختلف تمام الاختلاف عن الأنظمة القديمة.
1- مبادئ النظام الرأسمالي :
ارتكز النظام الرأسمالي في القرن XIX على مبادئ أساسيّة هي :
أ- الحريّة الاقتصاديّة :
قام النظام الاقتصادي الرأسمالي على الحريّة الاقتصاديّة المطلقة المتمثّلة في حقّ أصحاب المؤسّسات في ملكيّة جميع وسائل الإنتاج وتسيير مؤسساتهم وتشغيل ما شاؤوا من عمال دون تدخّل الدولة في الشؤون الاقتصاديّة والاجتماعيّة. فكانت الدولة في النظام الرأسمالي دولة سياسيّة أكثر منها دولة اقتصاديّة.
ب- قانون الربح الرأسمالي :
لا يهدف الإنتاج في النظام الرأسمالي إلى توفير الحاجيات الاجتماعيّة وإنّما إلى تنمية ثروات الرأسماليين، فالتهافت على الربح هو القوّة المحرّكة لكلّ إنتاج. ومن هنا فإنّ الإنتاج يتغيّر حسب مصلحة المنتج لا حسب حاجيات المستهلك فيقع بذلك التضحية في بعض الأحيان بالحاجيات الأساسيّة للمستهلك كالغذاء واللباس... لفائدة حاجيات ثانويّة كوسائل التجميل واللهو... باعتبارها تدرّ أرباحا أوفر على الرأسماليين.
ج- قانون العرض والطلب :
يعتبر العرض والطلب العنصر الأساسي لتحديد أجور العمال من جهة وضبط الأسعار من جهة ثانية. فأجور العمال ترتفع بارتفاع الأسعار وذلك للمحافظة على طاقتهم الشرائيّة، وضبط الأسعار مرتبط بمدى إقبال المستهلكين على البضائع المعروضة في السوق.
فإذا كان العرض قليلا لا يتجاوز الطلب فإنّ الأسعار ترتفع، وإذا كان العرض كثيرا فإنّ الأسعار تنخفض، فقيمة البضاعة في السوق يحدّدها قانون العرض والطلب.
د- قانون المنافسة الحرّة :
إنّ الهدف الأساسي للنظام الرأسمالي هو تحقيق أكثر ما يمكن من الأرباح وذلك بالضغط على تكاليف الإنتاج من جهة باستخدام الوسائل والطرق العلميّة الحديثة والضغط على أجور العمال من جهة ثانية.
وبالرغم من أنّ المؤسّسات الرأسماليّة لها الحريّة المطلقة في ضبط سعر البيع فإن وجود مؤسّسات لها نفس نوعيّة الإنتاج وجودته يدفعها حتما إلى التنافس.
فتقوم المؤسّسات القويّة ببيع منتوجاتها بأثمان جدّ منخفضة قد تصل في بعض الأحيان إلى حدّ التكلفة أو دونها وذلك للقضاء على المؤسّسات الصغيرة.
2- التنظيم الرأسمالي :
أ- تدفّق الذهب :
إنّ من أهمّ الأسس التي يعتمد عليها النظام الرأسمالي هو تراكم الثروة وذلك للحصول على المعادن الثمينة. فمنذ النصف الثاني من القرن XIX وقع اكتشاف عدّة مناجم للذهب منها :
- مناجم كاليفورنيا سنة 1848.
- مناجم استراليا سنة 1850.
- مناجم ترانسفال سنة 1890.
- مناجم ألسكا سنة 1897.
فكان لاكتشاف هذه المناجم أن ازدادت كميّات الذهب المتداولة أربع مرّات فازدادت الثروة وتدعم النظام الرأسمالي وتطوّر باستعمال الأوراق النقديّة والصكوك البنكيّة التي أدّت إلى تنمية المعاملات التجاريّة وتسهيل التمويلات والاستثمارات الاقتصاديّة.
ب- نمو الاعتمادات والقروض :
أدّى تراكم الثروة إلى بروز نظام جديد أساسه التخصّص في تمويل المشاريع الاقتصاديّة الكبرى التي أصبحت في حاجة أكيدة إلى الاعتمادات والقروض الماليّة الضخمة.
- فاختصت بنوك الإصدار في إصدار الأوراق النقديّة.
- واختصت بنوك الإيداع في جمع الأموال من صغار المدّخرين وإيداعها لتنميتها وذلك بتوظيفها في مشاريع اقتصاديّة على شكل قروض قصيرة المدى.
- واختصت البنوك الكبرى ذات الأموال الطائلة في بعث المشاريع الاقتصاديّة ذات الصبغة التجاريّة والصناعيّة وتمكين المؤسّسات من قروض طويلة المدى.
وهكذا تمكّنت البنوك الكبرى الألمانيّة والفرنسيّة والإنقليزيّة من السيطرة على العالم بفضل ما تملكه من إمكانيات ماليّة مكّنت المؤسّسات الاقتصاديّة من قروض عديدة وطويلة المدى فتحقق بذلك التجهيز الرأسمالي للعالم.
ج- الشركات المساهمة :
لقد بدأت المشروعات الرأسماليّة في التاريخ الحديث بشكل مشروعات فرديّة أو عائليّة تتميّز بصغر حجمها وضعف رأسمالها، ولمّا تطوّرت وسائل الإنتاج وحلّت الآلة محلّ اليد العاملة. أصبح المشروع يتطلّب أموالا كبيرة يعجز الفرد عن توفيرها زيادة على خوفه من المجازفة بأمواله لذا نشأت شركات المساهمة. فقام رجال الأعمال بدراسة المشاريع الاقتصاديّة دراسة دقيقة، وقسموا رأس المال إلى أجزاء صغيرة كلّ جزء يسمّى سهما وعرضوا ذلك للبيع، فأقبل الناس على اقتناء هذه الأسهم حسب إمكانياتهم الماديّة لما فيها من ضمانات وأرباح سنويّة تتماشى ومقدار ما لديهم من أسهم.
وهكذا تجمّعت رؤوس الأموال الضخمة وانبعثت المشاريع الاقتصاديّة على أسس شركات المساهمة. فتغيّر هيكل المؤسّسات الاقتصاديّة تغييرا جذريّا خاصة بعد تشجيع الحكومات الأوروبيّة لهذا النوع من المؤسّسات.
وكانت إنقلترا أسبق الحكومات لتشجيع بعث شركات المساهمة فقامت بإصدار قانون 1856 الذي سهل تكوينها، وتبعتها فرنسا سنة 1867 وألمانيا سنة 1870 فانتشرت تبعا لذلك شركات المساهمة وأصبحت معظم المشاريع الاقتصاديّة الضخمة تقوم على أساسها.
د- المضاربة في البورصة :
ازدادت أهميّة المضاربة في البورصة لشراء وبيع الأسهم نتيجة للتوسّع الاقتصادي وانتشار شركات المساهمة. فقد أقبل المضاربون على شراء الأسهم لبيعها في فرصة أخرى بثمن مرتفع قد لا يتماشى مع قيمة ربح السهم. فتحصّل هؤلاء على أرباح طائلة رغم ما في هذه العمليّة من مغامرة خطيرة في بعض الأحيان إذ كثيرا ما تتعرضّ أسعار الأسهم إلى الانخفاض حسب الظروف السياسيّة والاقتصاديّة والنفسيّة كالحروب والفتن والصعوبات الماليّة وفقدان الثقة في المستقبل...
3- تطوّر النظام الرأسمالي :
تقوم المؤسّسات الاقتصاديّة بالإنتاج والترويج غايتها في ذلك توفير أكبر ربح ممكن، غير أنّ تعدّدها وتشابه إنتاجها أدّى إلى اشتداد التنافس فيما بينها وبالتالي إلى انخفاض أرباحها وانهيارها في بعض الأحيان. ولمواجهة هذا الخطر أخذت المؤسّسات منذ سنة 1870 تتّحد وتتجمّع للقضاء على التنافس فيما بينها فتكوّنت المواثقات (Trusts) والاتحادات (Cartels) فتغيّر بذلك هيكل المؤسّسات الاقتصاديّة وتطوّر النظام الرأسمالي فأصبحت المنافسة بين المجموعات وظهر الاستقطاب المالي في مرحلة أولى والاتفاقات في مرحلة ثانية.
أ- الاستقطاب المالي :
يمثّل الاستقطاب المالي المرحلة الأولى للتطوّر الرأسمالي باعتباره أفضل طريقة للدفاع عن مصالح المؤسّسات ووسيلة لتوفير الأرباح، ومن هنا كان مظهرا طبيعيا للنظام الرأسمالي. ذلك أن تقنيات الإنتاج من استعمال الآلات والبحث عن مراكز التزوّد والترويج وحريّة التجمّع والتنافس والاتجار... كلّ ذلك يشجع ويدفع المؤسّسات إلى الاستقطاب الذي يؤدّي حتما إلى تخفيض عدد المؤسّسات الصناعيّة والتجاريّة وتقوية ما بقي منها.
وهذا الاستقطاب على نوعين :
- التكامل الأفقي :
ويتمثّل في تجمّع مؤسسات مختصّة في نفس الإنتاج تحت قيادة مؤسّسة موحّدة مثل تجمّع الشركات المنتجة للفحم، ذلك أن تعدّد المؤسّسات التي تعمل في نفس القطاع لا يمكن لها أن تدخل في معركة تنافس عنيفة دون أن تعرض نفسها لأفدح المخاطر كالفيض في الإنتاج والانخفاض في الأسعار. لذا كان التكامل الأفقي هو النتيجة الحتميّة لأنّ إستراتيجية التفاهم هي أفضل من إستراتيجية التنافس.
- التكامل العمودي :
ويتمثّل في توسيع حجم المؤسّسة بالنسبة لمرحلة سابقة ولاحقة، مثلا مصنع للنسيج يتوسّع نحو الأسفل بحثا عن المواد الأوليّة فيمتلك مزارع للقطن ويتوسّع نحو الأعلى بحثا عن المستهلكين فيفتح مغازات لبيع المنسوجات.
إنّ الغاية الأساسيّة من وراء ذلك كلّه هي التخفيض من سعر التكلفة ومقاومة الاحتكار والمنافسة، لذا يؤول كلّ تكامل إلى تدعيم وتوسيع الشركات العظمى على حساب الصغرى التي ستجد صعوبات كبيرة في التزوّد بالمواد الخام وترويج إنتاجها بعد سيطرة الشركات العظمى المتكاملة عموديّا على المواد الأوليّة والأسواق.
ب- الاتفاقات :
تمثّل الاتفاقات بين المؤسّسات الصناعيّة والتجاريّة المرحلة الثانية للتطوّر الرأسمالي، فبعد التكامل بنوعيه تسعى المؤسّسات خاصّة إذا أصبح عددها محدودا إلى إبرام عقود فيما بينها للحدّ من المنافسة وتخفيض تكلفة الإنتاج واحتكار الأسواق وهذه العقود هي على نوعين :
- النوع الأول : الاتّحادات : (CARTELS) :
إن الاتّحادات هي عبارة عن اتفاق بين عدّة مؤسّسات حول ميادين محدودة تتعلق خصوصا بالبيع وتحديد الأسعار وضبط الإنتاج وتوزيع الأسواق.
وذلك لتجنّب المنافسة فيما بينها مثل اتحاد "كروب" واتحاد "تسن" بألمانيا.
ومن هنا فإنّ المؤسّسات الخاضعة لهذا النوع من التنظيم تحتفظ بشخصيتها القانونيّة والماليّة.
– النوع الثاني : المواثقات (TRUSTS) :
إنّ المواثقات هي عبارة عن اتحاد وإدماج عدّة مؤسّسات في مؤسّسة عملاقة تنعم بوضع احتكاري يكاد يكون شاملا مثل "ستندار أويل" و"روكفلار".
ومن هنا فإنّ المؤسسات الخاضعة لهذا النوع من التنظيم تحتفظ بشخصيتها القانونيّة وتفقد شخصيتها الماليّة والاقتصاديّة.
وقد استطاعت هذه الاتفاقات أن تحقّق أهدافها المتمثّلة في الحدّ من تكلفة الإنتاج وتثبيت الأسعار خاصّة في الصناعات الثقيلة. كما استطاعت القضاء على الاحتكار وهذا ما يتنافى والمبادئ الأساسيّة للنظام الرأسمالي. فتحوّلت هذه المؤسّسات العملاقة إلى قوى اقتصاديّة كبرى أصبحت تمثّل خطرا كبيرا حتى على الدولة.
4)- أزمات الاقتصاد الرأسمالي :
إنّ الازدهار الذي عرفه النظام الرأسمالي خلال القرن XIX لم يَخْلُ من أزمات وتقلّبات اختلفت حدّتها ومداها باختلاف مظاهر الحياة الاقتصاديّة، من ذلك :
أ- الأزمات الطويلة المدى :
عرفت أوروبا الغربيّة فيما بين 1850 و1873 فترة نموّ وازدهار نتيجة لتدفّق الذهب بعد اكتشاف مناجم الذهب بكاليفورنيا وأستراليا سنة 1850 فأصبحت كمّيّات النقود المتداولة أكثر من قيمة المنتوجات المعروضة في السوق ممّا أدّى إلى ارتفاع الأسعار وتهافت المستهلكين على البضائع خوفا من ازدياد ارتفاع أسعارها، وتبعا لذلك اندفعت المؤسّسات الاقتصاديّة إلى زيادة الإنتاج لتوفير الطلبات المتزايدة فتوسّعت المؤسّسات وازداد عدد عمالها ونما إنتاجها فعرفت أوروبا في هذه الفترة نموّا وازدهارا اقتصاديّا عظيما.
أمّا فيما بين 1873 و1895 فقد تغيّرت الأوضاع فشهدت أوروبا ركودا اقتصاديّا كبيرا وطويلا نتيجة لنفاذ مناجم الذهب بصفة خاصّة إذ قلّت كمّيّات النقود المتداولة بالنسبة للبضائع المعروضة في السوق. فانخفضت الأسعار واشتدّ التنافس بين المؤسّسات وحتى بين الدول ممّا دفع الحكومات إلى حماية اقتصادها القومي من المنافسة الأجنبيّة فقامت باتباع سياسة قمرقيّة حمائيّة تمثّلت في فرض رسوم قمرقيّة عالية على البضائع المستوردة من جهة والبحث عن أسواق جديدة لترويج الإنتاج من جهة ثانية. فاشتد التنافس الاستعماري بين الدول الأوروبيّة في هذه الفترة وتمّ اقتسام القارة الإفريقيّة.
وفيما بين 1896 و1914 عادت الحياة الاقتصاديّة إلى النموّ والازدهار من جديد بفضل اكتشاف مناجم جديدة للذهب بالاسكا وافريقيا الجنوبيّة وسيبيريا فارتفعت الأسعار وازداد الإستهلاك ممّا أدّى إلى عودة النموّ والازدهار الاقتصادي.
ب- الأزمات القصيرة المدى :
لقد تعرضّت أوروبا الغربيّة بجانب الأزمات الطويلة إلى أزمات قصيرة المدى كثيرا ما كانت تتخلّل فترات النموّ والركود الاقتصادي على حدّ سواء.
فقبل الثورة الصناعيّة كانت الأزمات القصيرة المدى ناتجة عن قلّة الإنتاج الفلاحي، ففي سنة 1846 اشتدّ القحط وعمّت البطالة.
ومنذ سنة 1870 أصبحت الأزمات القصيرة ناتجة عن اختلال التوازن بين العرض والطلب ذلك أن زيادة الإنتاج بسرعة تفوق سرعة الاستهلاك أدّى حتما إلى انخفاض الأسعار وانهيار المؤسّسات الصغرى.
وممّا زاد في حدّة هذه الأزمات المضاربات في البورصة الماليّة، ففي فترات النموّ حيث تسود الثقة في المستقبل يزداد تهافت المضاربين على شراء الأسهم بأسعار قد تفوق قيمتها الحقيقية. أمّا في فترات الركود حيث تنعدم الثقة في المستقبل يسرع الناس في التخلّص من أسهمهم ممّا يؤدي إلى انخفاض أسعارها. فتتأثّر المؤسّسات الاقتصاديّة تبعا لذلك وتصبح في حالة عجز مالي لتسديد ما عليها من ديون للبنوك ممّا يؤدي بها جميعا إلى الإفلاس فيتزعزع المجتمع وتنتشر البطالة. ومن أبرز هذه الأزمات القصيرة المدى تلك التي وقعت في النصف الثاني من القرن XIX من ذلك أزمات 1873 و1882 و1884 و1900 و1907 و1913 وقد تميّزت هذه الأزمات وغيرها بصبغة دوليّة نظرا للعلاقات الماليّة التي تربط الدول بعضها ببعض.
II- المجتمع الغربي :
كان المجتمع الأوروبي قبل الثورة الصناعيّة مؤلّفا من طبقتين اجتماعيتين هما طبقة النبلاء وطبقة الفلاحين، غير أنّ الثورة الصناعيّة أحدثت انقلابا عظيما في المجتمع الأوروبي بطريقة تدريجيّة. ذلك أنّ تأسيس المعامل قد ولّد طبقتين كبيرتين كان لهما الأثر البالغ في المجتمع وهما الطبقة البرجوازيّة والطبقة العماليّة، فحيثما أنشئ معمل إلاّ ورافق إنشاءه جماعتان جماعة تنشئ المعمل وتمدّه بالمال وهم الرأسماليون البرجوازيون وجماعة تمدّه بالأيدي العاملة وهم العمال.
ولقد تركّز هذا التحوّل الاجتماعي خاصّة في المدن مهد البرجوازيّة، فأصبح الريف بعدما كان مصدر الثروة خاضعا للمدينة التي تحوّلت بحكم تكاثر المعامل بها إلى مركز الثقل الاقتصادي في المجتمع الأوروبي.
1)- ازدهار المدن :
عرفت المدن في النصف الثاني من القرن XIX نموّا كبيرا وازدهارا سريعا لم تعرف مثله من قبل، فتحوّلت مدن أوروبا الغربيّة والولايات المتّحدة، تلك المدن الصغيرة الهادئة، إلى مدن كبيرة صاخبة بالنشاط والحيويّة وأصبحت مدنا صناعيّة عصريّة.
أ- المدن الصناعيّة :
أدّى التطوّر الاقتصادي الصناعي إلى انتشار التصنيع في المدن فازداد حجم المؤسّسات الصناعيّة والبنكيّة وتوسّعت شبكة المواصلات وأصبحت المدينة تجتذب اليد العاملة الريفيّة لوفرة الشغل بها فازداد عدد سكان المدن الصناعيّة ونمت بسرعة عظيمة وتحوّلت إلى عواصم كبرى مثل لندن التي بلغ عدد سكانها سنة 1880 أكثر من 4 ملايين نسمة وباريس 3 ملايين نسمة.
ب- الحياة في المدينة :
عاش الإنسان طوال آلاف السنين في محيط ريفي قروي ضيق وفي سنوات محدودة وجد نفسه في محيط جديد عصري متحضّر فتغيّرت حياته اليوميّة تغيّرا جذريّا.
فقد أصبحت المدينة الصناعيّة ا لكبرى جذابة قادرة على توفير كلّ وسائل الرخاء والرفاه للطبقات الثريّة كالحاكي والراديو والسنما والمسرح والرياضة والدراجة والسيارة... غير أنّ مظاهر هذه الحياة العصريّة في المدن الحديثة لم تكن لتخلو من مشاكل وصعوبات تمثّلت في تموين المدينة ونظافتها وتعبيد طرقاتها. ورغم ما بذلته البلديات من مجهود فقد بقيت المدينة قذرة مكتظّة بالأكواخ التي يسكنها الفقراء.
فأصبحت المدينة العصريّة تمثّل ظاهرتين متناقضتين ظاهرة الأحياء العصريّة التي سكنها الأغنياء وظاهرة الأحياء المتخلّفة التي سكنها العمّال حيث البؤس والشقاء والمرض والموت والإدمان على الخمر والإجرام. فكان البون شاسعا في المدن العصريّة بين بذخ الأحياء الغنيّة وبؤس الأحياء الفقيرة.
2)- الطبقات الاجتماعيّة :
أحدثت الثورة الصناعيّة انقلابا عظيما في المجتمع الأوروبي فقلّ شأن النبلاء وتطوّرت طبقة الفلاحين وظهرت طبقتان جديدتان الطبقة البرجوازيّة والطبقة العمّاليّة.
أ- طبقة الفلاحين :
أدّت الثورة الصناعيّة إلى نزوح صغار الفلاحين الذين لا يملكون سوى بعض الهكتارات إلى المدن الصناعيّة بحثا عن العمل. أمّا من بقي منهم في الريف فقد أخذت حياتهم تتحسّن ببطء تحت تأثير المدرسة والخدمة العسكريّة والسفرات العديدة إلى المدن بعد نموّ شبكة المواصلات.
فأخذ الفلاح يغيّر تقاليده المحليّة شيئا فشيئا وبرزت بينهم فكرة التعاون فأنشأوا فيما بينهم صناديق القروض وتعاضديات الخدمات.
ومع ذلك فلم يكن لهذه الطبقة أهميّة كبرى في الحياة الاقتصاديّة خلال القرن XIX ذلك أنّ الثورة الصناعيّة إنّما قامت على الآلات واليد العاملة الصناعيّة فلم يكن لها إذن شأن كبير في هذه الثورة.
ب- الطبقة البورجوازيّة :
لقد تعاظم أمر الطبقة الوسطى البورجوازيّة وأصبحت حياة البلاد وسلامتها ودوام رقيها وتقدّمها الاقتصادي والفكري بيد أفرادها على اختلاف أصنافهم سواء أكانوا من البورجوازيّة الضعيفة والمتوسّطة المتألفة من صغار الموظفين والأساتذة والأطباء وأصحاب المهن الحرّة أم من البورجوازيّة القويّة المتألّفة من أصحاب المصانع الكبيرة والبنوك ورؤساء المؤسّسات الكبرى.
فأصبحت هذه الطبقة بحكم سيطرتها على وسائل الإنتاج من رؤوس أموال ومصانع ومناجم وبنوك ومزارع صاحبة النفوذ الاقتصادي وبالتالي صاحبة النفوذ الفكري والسياسي، ذلك أنّ هذه الطبقة قد احتكرت لنفسها الثروة والتعليم الذي اقتصر على أبنائها دون سواهم وخاصة في التعليم العالي.
وبفضل هذين السلاحين الثروة والتعليم أخذت هذه الطبقة تسعى وتطالب بإلحاح أن يكون لها قوّة في عالم السياسة تتناسب ومكانتها الاقتصاديّة والفكريّة فكوّنت الأحزاب والجمعيّات وتمكّنت في القرن XIX من أن تتحوّل إلى قوّة سياسيّة بجانب قوّتها الاقتصاديّة فأصبحت في النصف الثاني من القرن XIX الطبقة الممتازة والمتمتّعة بجميع مظاهر البذخ والترف والمسيطرة على الحياة الاقتصاديّة والسياسيّة في البلاد.
ج- الطبقة العماليّة :
أدّى تكاثر المعامل إلى تزايد عدد العمال الذين نزحوا إلى المدن بحثا عن الشغل في المصانع في وقت أخذ يتضاءل فيه عدد أصحاب الحرف وعمال المنازل فازداد شأن طبقة العمال (البروليتاريا) التي لا تملك سوى سواعدها للحصول على الرزق. ولم يكن لهذه الطبقة أثر بارز في بداية الثورة الصناعيّة على أنّ التطوّر السريع الذي عرفته أوروبا الغربيّة خلال القرن XIX أدّى إلى نموّ هذه الطبقة التي لعبت دورا كبيرا في الإنتاج وتكوين الثروة. ورغم ذلك فقد عاش العمال عيشة بؤس وشقاء بالرغم من الجهد المضني الذي بذلوه في تطوير الحياة الاقتصاديّة.
على أنّ حالتهم أخذت تتحسّن تدريجيّا في النصف الثاني من القرن XIX نتيجة اهتمام الحكومات بشؤونهم ومع ذلك فقد كانوا مهدّدين بالطرد والبطالة من جراء الأزمات الاقتصاديّة ممّا يدفع ببعضهم إلى التسوّل والاستجداء المهين.
وهكذا أحدثت الثورة الصناعيّة تأثيرا سيئا على حالة العمال، فقد ساءت حالتهم الصحيّة ولم يرتفع مستوى عيشهم ارتفاعا يتماشى ونموّ الثروة العامّة، فكانوا يسكنون في أحياء شعبيّة قذرة وبيوت ضيّقة لا تتوفّر فيها أبسط مرافق الحياة، وكان النساء والأطفال يعملون ليلا ونهارا بأجور لا تكاد تسدّ الرمق فكانوا يموتون موتا بطيئا.
وهذا ما دفع الحكومات الأوروبيّة والرأي العام إلى التفكير بصفة جديّة في تحسين حالتهم الصحيّة وذلك بمكافحة الأمراض والأوبئة ورفع المستوى الصحّي لدى هذه الطبقة فتألّفت في إنقلترا سنة 1839 الجمعيّة الصحيّة للمدن ودائرة الصحّة العامّة سنة 1848 وتبعتها بقيّة الدول الأوروبيّة.
غير أنّ هذه العناية لم تكن كافية لمنع هذه الطبقة الكادحة البائسة الناقمة من التضامن والتكتّل للتحرّر من هذا الوضع الاجتماعي القاسي المستبد.
الخاتمة :
بلغ الاقتصاد الأوروبي الرأسمالي تطوّرا عظيما قبيل اندلاع الحرب العالميّة الأولى غير أنّ بوادر التدهور بدأت تبرز شيئا فشيئا. وبالرغم من تحسّن الظروف الماديّة للطبقة العماليّة فإنّ النظام الرأسمالي قد أدّى إلى تفاقم الفروق الاقتصاديّة والاجتماعيّة بين مختلف أصناف المجتمع ممّا أدّى إلى ظهور الصراع الطبقي ونشأة الحركات الاشتراكيّة والمنظّمات النقابيّة العماليّة للدفاع عن مصالح الطبقة الكادحة.
ليست هناك تعليقات:
حتى تصبح عضوا في الموسوعة المدرسية انزل إلى أسفل الصفحة