الكتاب المسموع - قنديل أم هاشم 2
قنديل أم هاشم
يحيى حقي
استمع
2
سنة بعد سنة وإسماعيل يفوز بالأولوية، فإذا أعلنت النتيجة دارت أكواب الشربات على الجيران، بل ربما شاركتهم المارة أيضًا، وزغردت "ما شا الله" بائعة الطعمية والبصارة، وفاز الأسطى حسن - الحلاق ودكتور الحي - بحلوانه المعلوم، وأطلقت الست عديلة بخورها وقامت بوفاء نذرها لأم هاشم. فهذه الأرغفة تُعَدُّ وتملأ بالفول النابت وتخرج بها أم محمد تحملها في مَقْطَف على رأسها: ما تهل في الميدان حتى تختطف الأرغفة، ويختفي المقطف، وتطير ملاءتها، وترجع خجلة تتعثر في أذيالها غاضبة ضاحكة من جشع شحاذي السيدة، وتصير حادثتها فكاهة الأسرة بضعة أيام يتندرون بها.
وكذلك نشأ إسماعيل في حراسة الله ثم أم هاشم. حياته لا تخرج عن الحي والميدان، أقصى نزهته أن يخرج إلى المنيل ليسير بجانب النهر أو يقف على الكوبري. إذا أقبل المساء، وزالت حدة الشمس، وانقلبت الخطوط والانعكاسات إلى انحناءات وأوهام، أفَاقَ الميدان إلى نفسه وتخلص من الزوار والغرباء. إذا أصختَ السمعَ وكنتَ نقي الضمير فطنت إلى تنفس خفي عميق يجوب الميدان لعله سيدي العتريس بواب الست - أليس اسمه من أسماء الخدم؟ - لعله في مقصورته ينفض يديه وثيابه من عمل النهار، ويجلس يتنفس الصعداء. فلو قُيِّضَ لك أن تسمع هذا الشهيق والزفير فانظُر عندئذ إلى القُبّة. لألاء من نور يطوف بها، يضعف ويقوي كومضات مصباح يلاعبه الهواء. هذا هو قنديل أم هاشم المعلق فوق المقام. هيهات للجدران أن تحجب أضواءه. يمتلئ الميدان من جديد شيئًا فشيئًا. أشباح صفر الوجوه منهوكة القوى، ذابلة الأعين، يلبس كل منهم ما قدر عليه، أو إن شئت: فما وقعت عليه يده من شيء فهو لابسه.
نداءات الباعة كلها نغم حزين.
نداءات الباعة كلها نغم حزين.
- حراتي يا فول.
- حلّي وع النبي صلّي.
- لوبية يا فجل لوبية.
- المسواك سُنّة عن رسول الله.
ما هذا الظلم الخفي الذي يشكون منه؟ وما هذا العبء الذي يجثم على الصدور جميعها؟ ومع ذلك فعلى الوجوه كلها نوع من الرضا والقناعة. ما أسهل ما ينسون! تتناول أيد كثيرة قروشًا وملاليم قليلة. ليس هنا قانون ومعيار وسعر، بل عرف وخاطر وفصالٍ وزيادة في الكيل أو طبّة في الميزان. وقد يكون الكيل مدلسًا والميزان مغشوشًا، كله بالبركة. صفوف تستند إلى جدار الجامع جالسة على الأرض، وبعضهم يتوسد الرصيف. خليط من رجال ونساء وأطفال، لا تدري من أين جاءوا ولا كيف سيختفون، ثمار سقطت من شجرة الحياة فتعفنت في كنفها. هنا مدرسة الشحاذين. حامل كيس اللقم يثقل الحمل ظهره ينادي:
- لقمة واحدة لله يا فاعلين الثواب، "جاعان".
والشابة التي تنبت فجأة وسط الحارة عارية أو شبه عارية:
- ياللي تكسي الولية يا مسلم، ربنا ما يفضح لك ولية!
صوتها الصارخ يجذب الوجوه للنوافذ، وعيناها الساحرتان تستهويان المطلات، فتمطر عليها أكوام من الخرق ورث الثياب. في لحظة واحدة تذوب وتختفي، فلا تدري أطارت، أم ابتلعتها الأرض فغارت.
وهذا بائع الدقة الأعمى الذي لا يبيعك إلاّ إذا بدأته السلام وأقرأك وراءه الصيغة الشرعية للبيع والشراء.
ينقضي النهار فيودّع "كرش" الطرشجي بقية براميله، وتترك أقدام الخراط عملها اليومي وأدواتها، لتعود بصاحبها إلى الدار. لا يزال الترام هنا وحشًا مفترسًا له في كل يوم ضحية غريرة. يتقدم المساء ينعشه نسيم ذو دلال. تسمع من القهاوي ضحكات غضة وأخرى غليظة "حشّاشي". وإذا دلفت من الميدان إلى مدخل شارع مراسينا سمعت ضجيج السكارى في خمارة أنسطاسي التي يلقبها أهل الحي بفكاهتهم خمارة "آنسْت". يخرج منها سكير هائج يتطوح ويتعرض للمارة:
- ورّوني أجعص فتوة.
- جتك لهوة يا بعيد.
- سيبوه في حاله دا غلبان.
- ربنا يتوب عليه.
أشباح الميدان الحزينة المتعبة يحركها الآن نوع من البهجة والمرح، ليس في الدنيا همّ. والمستقبل بيد الله، تتقارب الوجوه بود، وينسى الوجيع شكايته. ويبذر الرجل آخر نقوده في الجوزة أو الكتشينة وليكن ما يكون: تقل أصوات اصطدام كِفَف الموازين، وتختفي عربات اليد، وتطفأ الشموع داخل المشنّات، عندئذ تنتهي جولة إسماعيل في الميدان. هو خبير بكل ركن وشبر وحَجر، لا يفاجئه نداء بائع، ولا ينبهم عليه مكانه. تلفه الجموع فيلتف معها كقطرة المطر يلقمها المحيط. صور متكررة متشابهة اعتادها، فلا تجد في روحه أقل مجاوبة، لا يتطلع ولا يمل. لا يعرف الرضا ولا الغضب. إنه ليس منفصلاً عن الجمع حتى تتبيّنه عينه. من يقول له إن كل ما يسمعه ولا يفطن له من الأصوات، وكل ما تقع عليه عينه ولا يراه من الأشباح، لها كلها مقدرة عجيبة على التسلل إلى القلب، والنفوذ إليه خفية، والاستقرار فيه، والرسوب في أعماقه، فتصبح في كل يوم قوامه. أما الآن فلا تمتاز نظرته بأي حياة. نظرة سليمة، كل عملها أن تبصر.
ليست هناك تعليقات:
حتى تصبح عضوا في الموسوعة المدرسية انزل إلى أسفل الصفحة