أشهر العلماء في التاريخ - البيروني - أعلم العلماء
البيروني
أعلم العلماء
دارت أحداث هذه القصة في بلاد السلطان "محمود الغزنوي" وتقول روايتها ان السلطان أراد أن يعرف مساحة مملكته الّتي تمتد حدودها من الهند إلى بلاد فارس، وقد جمع السلطان علماء مجلسه، وطلب منهم أن يقوموا بقياس مساحة المملكة، فانهمكوا في القياس والحساب لمدة سنة كاملة، وكان بين العلماء "أبو نصر" أستاذ "البيروني" نفسه، وفي النهاية إجتمع العلماء في مجلس السلطان وإجتمع معهم رجال الدولة والدين والوزراء، وإستمع السلطان إليهم جميعا، فكان كل واحد منهم يحدّد مساحة المملكة برقم مختلف عن الآخر، ودهش السلطان، واستفسر عن سبب إختلاف العلماء وفشلهم في التوصل إلى معرفة المساحة الحقيقية للملكة، وأخيرا أقروا جميعا بأنه ليس هناك طريقة علمية دقيقة لقياس مساحة المملكة.
فوقف "أبو نصر" أستاذ البيروني وقال:
- لقد اختلف العلماء الكبار، رغم علمهم العظيم، ومكانتهم الرفيعة حول تقدير مساحة المملكة، والرأي أنهم فشلوا جميعا، لأن المساحة الشاسعة لا يمكن حاليا قياسها بالأميال نظرا لسعة سطح الأرض، وإذن فلا بد من طريقة أخرى نتمكن بها من قياس المساحة، وإذا سمح السلطان لعرضت عليه طريقة مبتكرة لمعرفة المساحة، هذه الطريقة إبتكرها أحد تلاميذي. ووافق السلطان على الإستماع لهذه الطريقة، وجاء "البيروني" إلى مجلس العلماء وعرض طريقته فقال:
- لقد قمت بإجراء الحسابات الهندسية وقياس زوايا الظل فتوصلت إلى نتائج دقيقة في القياس، ونشر "البيروني" أوراقه أمام السلطان وهو يقول:
- لو انتظرنا حتى تصبح الشمس عمودية على مدينة "عزنة" وقسنا زوايا الظل، ثم قسنا زوايا الظل في اليوم نفسه في مدينة أخرى مثل "شيراز" فإن مقدار الفارق بين زوايا الظل في المدينتين سيعطينا مقدار المساحة بينهما، وعلى ذلك يكون مقدار المسافة بين غزنة وشيراز مائة وخمسين فرسخا يا مولاي.
ودهش السلطان كثيرا وأبدى عجبه، أما العلماء فقد اعترضوا بشدة على طريقة "البيروني" وصاح أحدهم قائلا:
- يجب ألا نصدق هذا الكلام الفاسد.
فقال السلطان:
- إذن ماذا ترون.. وماذا نفعل حتى نتأكد من صدق "البيروني"؟
فقال أحدهم متحدثا:
- ليس أمامنا سوى القيام بقياس المسافة بين غزنة وشيراز يا مولاي.
فقال السلطان:
- سأصدر أوامري إلى جميع القياسين، وسأعقد مجلس العلماء بعد الإنتهاء من القياس.
وهكذا ظل القياسون يعملون على الطبيعة ويحبسون ويقيسون لعدة أسابيع، وبعدها عقد السلطان مجلس العلماء، فقال كبير الوزراء:
- لقد قمنا بقياس المسافة يا مولاي، وكانت النتيجة بكل دقة كما قال "البيروني".
وعندئذ ابتسم السلطان وهو يقول:
- لقد قام "البيروني" بحساباته في ساعة واحدة توصل خلالها إلى معرفة القياس الصحيح، أما جميع العلماء فقد ظلوا لعدة أسابيع حتى توصلوا إلى نفس النتيجة، وعلى الرغم من أن "البيروني" هو أصغر العلماء سنا فإنه كان أسرعهم وأدقهم وأكثرهم علما، فأحرى بنا أن نطلق عليه لقب أعلم العلماء.
وظل "البيروني" طول فترة إقامته في خدمة السلطان، وخدمة العلم، وقد تمكن في هذه الفترة من إنشاء حلقة خشبية ضخمة ترتفع عن الأرض عدة أمتار، وقد استخدم "البيروني" هذه الحلقة في قياس إرتفاع الشمس، كما قام بصناعة كرة خشبية مجسمة عليها خريطة لتضاريس الأرض بمناسيب منسجمة، وبفضل هذه الكرة أمكن للبيروني أن يقوم برسم أول خريطة ورقية للعالم هي الأقرب من نوعها للحقيقة والواقع.
في هذه الفترة أيضا صنع "البيروني" حلقة خشبية مستديرة قسمها إلى عدة دوائر وأنصاف دوائر، ووضع على هذه الحلقة قوسا متحركا، وقسّم الحلقة إلى درجات مستاوية، وبهذه الأداة البسيطة تمكّن "البيروني" من القيام بقياسات دقيقة لأبعاد الأماكن.
وعندما أراد "البيروني" أن يعرف الوزن النوعي لبعض العناصر الطبيعية والمعادن، صنع أداة بسيطة لوزن هذه المعادن، وكانت هذه الأداة مكونة من إناء بداخل إناء آخر فوق أداة للوزن، فإذا أراد وزن أحد المعادن وضع المعدن في الإناء الداخلي وسكب فوقه الماء حتى يفيض إلى الإناء الخارجي، عندئذ يقوم الميزان بوزن الماء الفائض، فوزن الماء الفائض، هو الوزن النوعي للمعدن المراد وزنه.
وهكذا كان "البيروني" يلجأ إلى صنع الآلات البسيطة كلما أعوزته الحاجة إلى البحث العلمي، ولم يكن يكتفي بالمعارف العلمية القديمة دون إختبارها بأساليبه الخاصة المبتكرة، وبفضل عبقريته العلمية الفذّة الفريدة إنتفع العلماء من بعده بعدد كبير من الأجهزة والآلات العلمية الّتي إبتكرتها عبقريته الفذّة.
وهكذا يمكننا أن نضيف إسم "البيروني" إلى قائمة العباقرة الّذين قاموا بإختراع الأجهزة العلمية المدهشة الّتي ساهمت كثيرا في تقدّم العلم، وساعدت العلماء على إنجاز أعمالهم العلمية، ومهدت الطريق لتقدّم البحوث العلمية، إلا أن "البيروني" لم يهنأ كثيرا بإستقرار الحياة في كنف السلطان "محمود الغزنوي"، إذ توفي السلطان عام ألف وثلاثين ميلادية.
إنتقل الحكم بعد وفاة السلطان محمود الغزنوي إلى إبنه "مسعود" وكان السلطان مسعود شغوفا بالعلم والعلماء، وأكثر من والده محبة وتقديرا لرجال العلم، حتى أنه أهدى "البيروني" الكثير من الأموال والهدايا والمنح والعطايا، وعندما ألّف "البيروني" كتابه "القانوني" وأسماه "القانون المسعودي" نسبة إلى السلطان مسعود، منحه السلطان مكافأة ضخمة من الفضة والذهب "حمل فيل". وكانت تلك أعظم وأضخم مكافأة ينالها أحد العلماء إلا أن "البيروني" لم يقبل هذه المكافأة رغم ضخامتها وردها إلى السلطان قائلا:
- لقد أهديت كتابي للسلطان ولا أقبل ثمن الهدية.
عندئذ ارتفعت مكانة "البيروني" أكثر عند السلطان مسعود، وطلب من "البيروني" أن يظلّ كبيرا لمجلس العلماء مدى الحياة، وبالفعل ظل "البيروني" يحيا في كنف السلطان حتى بلغ من العمر ثماني وستين سنة.
وفي عام ألف وأربعين ميلادية لقي السلطان مسعود مصرعه على أيدي قواد جيشه، فحزن "البيروني" حزنا شديدا، وهاجمته الأمراض فثقل سمعه، وضعف بصره، وإعتزل مجالس العلماء، واعتكف في دراه ثماني سنوات، لكنه لم يتوقف لحظة عن البحث والتأليف، وكان رغم ضعف بصره يملي على تلاميذه بعض الكتب الّتي قام بتأليفها في تلك الفترة، ومنها كتاب "الدستور" وكتاب "الصيدلة".
ورغم الحزن والمرض، جاءت المؤلفات الاخيرة للبيروني بالغة الثراء والدقة، فقد ضمنها "البيروني" حكمة ومعرفة السنوات الطويلة من عمره، وكان "البيروني" قد أراد أن يثبّت رسوخ قدمه في علوم النبات والصيدلة، وباعه الطويل في علوم الطب، كما أثبت من قبل علو قامته في علوم الفلك والرياضة والجغرافيا والتاريخ.
ليست هناك تعليقات:
حتى تصبح عضوا في الموسوعة المدرسية انزل إلى أسفل الصفحة