الكتاب المسموع - قنديل أم هاشم 12
قنديل أم هاشم
يحيى حقي
استمع
12
وجاء رمضان، فما خطر له أن يصوم. ابتدأ يطيل وقفته في الميدان ويتدبر: في الجو، في الهواء، في المخلوقات، في الجمادات كلها شيء جديد لم يكن فيها من قبل. كأن الوجود خلع ثوبه القديم واكتسى جديدًا. علا الكون جو هدنة بعد قتال عنيف.
يحدث إسماعيل نفسه: لماذا خاب؟ لقد عاد من أوربا بجعبة كبيرة محشوة بالعلم، عندما يتطلع فيها الآن يجدها فارغة، ليس لديها على سؤاله جواب. هي أمامه خرساء ضئيلة، ومع خفّتها فقد رآها ثقلت في يده فجأة.
ودار بعينيه في الميدان. وتريثت نظرته على الجموع فاحتملتها، وابتدأ يبتسم لبعض النكات والضحكات التي تصل إلى سمعه فتذكره هي والنداءات التي يسمعها بأيام صباه. ما يظن أن هناك شعبًا كالمصريين حافظ على طابعه وميزته رغم تقلب الحوادث وتغير الحاكمين. "ابن البلد" يمر أمامه كأنه خارج من صفحات "الجبرتي". اطمأنت نفس إسماعيل وهو يشعر بأن تحت أقدامه أرضًا صلبة. ليس أمامه جموع من أشخاص فرادى، بل شعب يربطه رباط واحد: هو نوع من الإيمان، ثمرة مصاحبة الزمان والنضج الطويل على ناره. وعندئذ بدأت تنطق له الوجوه من جديد بمعان لم يكن يراها من قبل. هنا وصول فيه طمأنينة وسكينة والسلاح مغمد. وهناك نشاط في قلق وحيرة، وجلاد لا يزال على أشده والسلاح مسنون. ولم المقارنة؟ إن المحب لا يقيس ولا يقارن وإذا دخلت المقارنة من الباب، ولى الحب من النافذة.
وحلت ليلة القدر. فانتبه لها إسماعيل، ففي قلبه لذكراها حنين غريب. ربي على إجلالها والإيمان بفضائلها، ومنزلتها بين الليالي، لا يشعر في ليلة أخرى - حتى ولا ليالى العيد - بمثل ما يشعر به من خشوع وقنوت لله. هي في ذهنه غرة بيضاء وسط سواد الليالي. كم من مرة رفع فيها بصره إلى السماء فبهره من النجوم جمال لا يراها تنطق به بقية العام.
وغاب لحظة عن أفكاره، فإذا به ينتبه على صوت شهيق وزفير عميقين يجوبان الميدان. هذا هو سيدي العتريس ولا ريب رفع بصره. القُبّة في غمرة من ضوء يتأرجح يطوف بها. انتفض إسماعيل من رأسه إلى أخمص قدميه. أين أنت أيها النور الذي غبت عني دهرًا؟ مرحبًا بك! لقد زالت الغشاوة التي كانت ترين على قلبي وعيني. وفهمت الآن ما كان خافيًا عليّ. لا علم بلا إيمان. إنها لم تكن تؤمن بي، إنما إيمانها ببركتك أنت وكرمك ومَنِّك. ببركتك أنت يا أم هاشم.
ودخل إسماعيل المقام مطأطئ الرأس فأبصره يرقص عليه ضوء خمسين شمعة زينت جوانبه، والشيخ درديري يتناولها واحدة واحدة من فتاة طويلة القامة سمراء اللون، جعدة الشعر. هي نعيمة! قد زال انطباق شفتيها وبدت لها أسنان. وإن تكلمت فصف من أسنان بيض كاللؤلؤ. تكفي النظرة إليها أن تنسي وجود كل قبيح.
لقد صبرت وآمنت، فتاب الله عليها، وجاءت توفي بنذرها بعد سبع سنوات. لم تقنط، ولم تثر، ولم تفقد الأمل في كرم الله.
أما هو - الشاب المتعلم، الذكي المثقف - فقد تكبر وثار وتهجم وهجم، وتعالى فسقط.
ورفع إسماعيل بصره، فإذا القنديل في مكانه يضيء كالعين المطمئنة التي رأت، وأدركت، واستقرت. خيل إليه أن القنديل. وهو يضيء، يومئ إليه ويبتسم.
وجاءه الشيخ درديري يسأله عن صحته وأخباره، فيميل عليه إسماعيل يقول:
- هذه ليلة مباركة يا شيخ درديري، أعطني شيئًا من زيت القنديل.
- والله أنت بختك كويس. دي ليلة القدر؟ وليلة الحضرة كمان.
وخرج إسماعيل من الجامع وبيده الزجاجة وهو يقول في نفسه للميدان وأهله:
- تعالوا جميعًا إليّ! فيكم من آذاني، ومن كذب عليّ، ومن غشّني، ولكني رغم هذا لا يزال في قلبي مكان لقذارتكم وجهلكم وانحطاطكم، فأنتم مني وأنا منكم. أنا ابن هذا الحي.. أنا ابن هذا الميدان. لقد جار عليكم الزمان، وكلما جار واستبد، كان إعزازي لكم أقوى وأشد.
ودخل الدار ونادى فاطمة:
- تعالى يا فاطمة! لا تيأسي من الشفاء. لقد جئتك ببركة أم هاشم! ستجلي عنك الداء، وتزيح الأذى، وترد إليك بصرك فإذا هو حديد...
وشدّ ضفيرتها واستمر يقول:
- وفوق ذلك، سأعلمك كيف تأكلين وتشربين، وكيف تجلسين وتلبسين، سأجعلك من بني آدم.
وعاد من جديد إلى علمه وطبه يسنده الإيمان. لم ييأس عندما وجد الداء متشبثًا قديمًا، يجادله بعناد ولا يتزحزح. ثابر واستمر ولاحت بارقة الأمل. ففاطمة تتقدم للشفاء على يديه يومًا بعد يوم، وإذا بها تكسب في آخر العلاج ما تأخرته في مبدئه، فهي تقفز أدواره الأخيرة قفزًا.
ولما رآها ذات يوم أمامه سليمة في عافية، فتش في ذهنه وقلبه عن الدهشة التي كان يخشاها، فلم يجدها.
ليست هناك تعليقات:
حتى تصبح عضوا في الموسوعة المدرسية انزل إلى أسفل الصفحة