أشهر العلماء في التاريخ - ألفريد نوبل - انتصار العبقريّة
ألفريد نوبل
انتصار العبقريّة
واصل "نوبل" تجاربه في معمله الصغير بروح يحدوها الأمل في تحقيق الهدف، وكان كلّما واجهته المشاكل، أو فشلت إحدى تجاربه، يبدأ من جديد، فيبحث عن أسباب الفشل، ويتلمّس جذور المشكلة، ثمّ يبدأ في مواصلة البحث والتجريب ضاربا عرض الحائط بكل المخاوف الّتي راودته حول إمكان تعرّض حياته للخطر من جرّاء التجارب الّتي يجريها على المتفجرات.
وبعد مجهودات شاقّة توّصل "نوبل" إلى الطريقة الّتي ظلّ يبحث عنها والّتي يمكنه بها أن يجعل مادة النيتروجلسرين مادّة آمنة، وكانت الطريقة الّتي توصّل "نوبل" إلى اختراعها عام 1866م هي طريقة اختراع "الديناميت". وفي نفس السنة الّتي اخترع "نوبل" فيها الديناميت، راح يجري الكثير من التجارب لاختباره والتأكّد من درجة الأمان في استخدامه.
وفي نفس العام حصل "نوبل" على براءة اختراع الديناميت، وهي البراءة الّتي تعني نجاح الاختراع والاعتراف ضمنا بعبقريّة صاحبه ومكانته العلميّة وفضله على العلم، وكان من الممكن أن يتوقّف "نوبل" عند هذا الحد، بعد أن حقق حلمه الكبير، وأصبح في مقدمة قائمة العلماء الّذين سيخلد التاريخ ذكراهم، إلاّ أنّ طموح "نوبل" لم يكن من النوع الّذي يقف عند هذا الحد.
ولقد واصل "نوبل" أبحاثه وتجاربه بعد ذلك، في الكيمياء عموما، وفي كيمياء المتفجرات خصوصا، وتمكّن "نوبل" من التوصّل إلى إنجاز الكثير من المنجزات العلميّة العظيمة، وبدأت شهرته في الاتساع، وبدأ اسمه يتردّد في الأوساط والمجامع العلميّة، وبدأ "نوبل" يجني ثمار إنجازاته، فتحسّنت حالته المادية بالتدريج إلى أن أصبح من الأثرياء. وهكذا حقٌق "نوبل" الشهرة والثراء بعبقريّته الفذة وإصراره العنيد.
كانت الثروة الّتي حقٌّقها "نوبل" من اختراع الديناميت ثروة طائلة، وقد تمكّن بفضل هذه الثروة من توسيع نطاق أبحاثه وتجاربه ومشاريعه العلميّة، وهكذا تمكّن من مواصلة النجاح، وتحقيق المزيد من الإنجازات العلميّة الرائعة، وتوالت أعمال "نوبل" العبقريّة، وسجّلت باسمه عشرات الاختراعات الّتي حقٌّقت له الشهرة والمجد.
لقد عاش "نوبل" ليجني ثمار نجاحه العظيم من المجد والشهرة والمال، لكنّه مع ذلك لم يشعر بالفرح والسعادة. ولم تغمره زهرة الانتصار أو نشوة المجد والشعور بالعظمة. إذ سرعان ما تحوّل إختراع الديناميت إلى أداة مدمرة فتاكة في أيدي مثيري الفتن والصراعات وتجار الحروب.
عندئذ شعر "نوبل" بخطورة العمل الّذي قام به، وأدرك أنّ العلم يمكن استخدامه في تدمير الحياة البشريّة، كما يمكن استخدامه لإسعاد الإنسانية، وقد استبدّ به هذا الشعور أكثر خاصّة عندما اخترع "الباليستايت" وهو مادّة أكثر وأشد فتكا وتفجّرا من الديناميت.
وبسبب هذا الشعور ظلّ "نوبل" يؤنّب نفسه، ويراجع أفكاره متشكّكا في صدقها، وكأنّه كان يقول لنفسه:
- هل حقا كنت أريد الخير للإنسانية عندما اخترعت الديناميت؟
- هل كنت أسعى إلى تحقيق المجد الشخصي أو كنت أسعى لخدمة العلم والبشريّة؟
- هل كنت أبغي التقليل من الحروب ونشر الأمن والسلام، أو كنت أضع بين أيدي الجبابرة والطغاة وتجّار الحروب وسماسرة أقوات الشعوب أفتك الأسلحة وأشدّها تدميرا وإهلاكا للأرواح؟.
هكذا كان "نوبل" يراجع نفسه ويقسو عليها بهذه الأسئلة وأمثالها، وقد بلغت به قسوته على نفسه إن اتهمها بالأنانية وعدم الصدق مع الذات، فكان بذلك على وشك أن يفقد ثقته بنفسه، لكن عدل عن موقفه هذا عندما قرّر أن يثبت للعالم كلّه حسن نيّته.
لم يجد "نوبل" طريقة لإثبات حسن نيّته للعالم كلّه سوى أن يوصى بأن تخصّص كل ثروته بعد موته لتقديم جوائز عالميّة لأهل العلم، والّذين يعملون على تحقيق الأمن ونشر السلام في العالم.
وبهذه الطريقة أثبت "نوبل" بالفعل أنّه لم يكن يهدف إلى تحقيق الثروة باختراع الديناميت وغيره من المواد الشديدة الانفجار، إنّما كان كل هدفه أن يقدّم أجل وأعظم الخدمات للإنسانيّة، فقد ساهم اختراع الديناميت بالفعل في تقدّم الحياة البشريّة، وكانت الجوانب الإيجابيّة لهذا الاختراع أكثر وأعظم وأجلّ بكثير من الجوانب والآثار السلبيّة له.
ولكي ندرك مدى أهميّة اختراع "نوبل" للديناميت، وندرك - أيضا - جوانب عظيمة شخصيّة "نوبل" وعبقريّته الفذّة، علينا أن نرجع إلى الوراء، مع التاريخ، لعشرات القرون، وعلينا أن نتصوّر شكل الحياة بدون أعظم المخترعات الّتي قدّمتها العقول العبقريّة عبر التاريخ، والدّيناميت - ذاته - كاختراع يأتي في مقدمة الإنجازات العلمية الّتي ساهمت بالفعل في تطوير الحياة الإنسانيّة وتقدمها.
ولكي ندرك إلى أي مدى كانت عبقريّة نوبل من العبقريّات الفذّة، علينا أن نعرف أن هناك العشرات من العقول العبقريّة الّتي ظهرت عبر التاريخ، وحاولت قبله أن تتوصّل إلى أسرار المواد المتفجرة، لكنّها لم تفلح، وعجزت كلّها في أن تتوصّل إلى تحقيق الإنجاز العبقري الّذي توصّل "نوبل" وحده بعبقريّة ممتازة متفردة إلى تحقيقه.
ومعنى ذلك أن هناك الكثير من المحاولات السابقة على "نوبل"، وكلّها محاولات سجّلها تاريخ العلم، وحاول العلماء من خلالها أن يحقّقوا ما حقّقه "نوبل" لكنّهم فشلوا جميعا.
قبل أن يظهر "ألفريد نوبل" عبقري القرن العشرين، الّذي توصّل إلى اختراع الديناميت، كان هناك العديد من العلماء الّذي حاولوا صناعة المفرقعات، وكان قبل هؤلاء العلماء من حاول أيضا أن يتوصّل إلى صناعة المفرقعات، فقصّة المفرقعات والمواد المتفجرة قصّة طويلة يرجع تاريخها إلى زمن طويل حتّى قبل "روجر بيكون" الّذي أجرى أول تجربة على البارود.
كان البارود على حد قول "فلتشر برات" هو: أوّل مواد المفرقعات ولكنّنا لا نعرف من الّذي اخترعه، ففي العصر الوسيط عندما اخترع البارود كان الناس يغرمون بمزج الأشياء معا لمعرفة ماذا سيحدث من هذا المزج، ولهذا كان من الطبيعي أن يمزج شخص ما ثلاث مواد معروفة، هي: نيترات البوتاسيوم أو نيترات الصوديوم والكبريت والفحم النباتي، كما يمكن أن يمزج أي مواد أخرى يجدها على مقربة منه أو فيما حوله من مواد، ونيترات البوتاسيوم أو الصوديوم كان يستطيع العثور عليها أسفل أي كومة من السماد (السّباخ)، لذلك كان من السهل دائما الحصول على هذه المواد، كما كان من السهل الحصول على الكبريت حيثما توجد البراكين، وكذلك كان الفحم النباتي يوجد في كل المنازل.
وأول من يحدّثنا عن تجربة البارود رجل اسمه "روجر بيكون" كان راهبا إنجليزيا، وكان شغوفا بمعرفة كل شيء من حوله في الطبيعة، وفي عام 1242م كتب كتابا قال فيه: إنّه قد مزج نيترات البوتاسيوم بالكبريت والفحم النباتي، ثم أشعل هذه المواد بعد مزجها معا، فحدث وميض صحبه صوت كقصف الرعد، ويمكن أن ندعو هذا الّذي حدث "فرقعة" أو"انفجارا".
ومع أنّه قد يبدو من هذا أن الراهب بيكون قد اكتشف البارود، إلاّ أنّه لم يعتبر مخترعه، ومن ثمّ فهو لا يستحق أن ينسب إليه، فلقد اخترع أو اكتشف الكثيرون من الناس أشياء ظنّوها ليست ذات نفع عملي، ومع أنّهم قد كتبوا عمّا وصلوا إليه، ولكنّهم سرعان ما نسوا هذا كلّه وكأنّه لم يكن، وكان هذا أيضا هو نفس ما فعله "روجر بيكون"، إذ كان كل ما يعنيه هو أن يراقب الانفجار، ولكنّه لم يحاول أن يستخدمه في شيء ما.
وكان الرجل الّذي فكّر في استخدام البارود راهبا اسمه "برثولد شوارتز" عاش في ألمانيا بعد مائة سنة من عصر "روجر بيكون"، وقد خطرت لشوارتز هذا فكرة وضع بعض هذه المواد معا في أنبوبة من الحديد أغلق أحد طرفيها إغلاقا محكما، تاركا ثقبا صغيرا ليدخل منه اللهب، ثمّ وضع فوق المسحوق قطعة من الحجر، فلمّا أشعل النار وانفجر المسحوق قذف الانفجار بقطعة الحجر، وهكذا اخترع "برثولد شوارتز" المدفع.
وكان هذا اختراعا له أهميّته، فقبل اختراع المدفع كان النّصر في المعركة يقف دائما إلى جانب من هم أكثر عددا، وأحد أسباب سقوط إمبراطوريّة روما أنّه لم يتوافر رومانيون لصدّ رجال القبائل المتوحشة الّتي جاءت من الشمال، ولكن بعد أن أتمّ الراهبان بيكون وشوارتز علمهما، أمكن للعدد القليل من الرجال الّذي يتسلّحون بالمدافع أن يصدّوا عن بلادهم عددا كبيرا من المقاتلين الّذين يحملون السيوف والحراب، ولم تكن الولايات المتحدة لتستوطن، لو لم يكن لدى المستوطنين مدافع ردّوا بها الهنود الحمر على أعقابهم.
ولقد كان لاختراع البارود أيضا أهميّته من ناحية أخرى، فقبل اختراعه كان أي أمير ثري يتدثّر بدرعه يستطيع أن يقهر أي عدد من الرجال الّذين لا يتوافر لهم مثل هذا الرّداء من الصّلب، وكان الأمير يستطيع أن يعيش في قلعته آمنا مطمئنّا، لأنّه يعرف أن أحدا لن يصل إليه، ومكّن الراهبان "بيكون وشوارتز" الناس من أن يعيشوا آمنين لا يقلقهم أن يغتصب منهم أمير ما يملكون.
على أن هذا لم يكن كل ما حقّقه اختراع البارود، فقبل اختراع البارود كان الناس يستخدمون الإزميل، أو المنحات والفأس والمعول أو غيرها من الآلات اليدويّة لانتزاع الأحجار من الأرض، وكان حفر الأرض لإخراج الأحجار يتطلّب جهدا إلى حد أنّه لم يكن يشيّد من الأحجار سوى الكنائس ودور الحكومة وقصور وقلاع الأثرياء، ولكن عندما أمكن نسف الصخور وتكسيرها بالبارود، أمكن لكل فرد أن يشيّد بيتا من الأحجار.
واليوم نصل إلى كل ما يمكن انتزاعه من باطن الأرض بواسطة المفرقعات، فالفحم والحديد والألمنيوم وغيرها من المعادن الأخرى يجب أن تنتزع كلّها من الصخور الّتي تخفيها أسفلها، ولولا ما قام به الراهبان "بيكون وشوراتز" لبقيت كل هذه المعادن التي نستخدمها اليوم مختزنة في باطن الأرض، نادرة الاستعمال، غالية الثمن.
ولكن المفرقعات الّتي تفعل لنا هذا كله اليوم هي في الواقع بعيدة جدا عن البارود، فقد تمّت خطوة أخرى بعد خمسمائة سنة من إشعال "برثولد شوارتز" المادة الّتي وضعها في أنبوبة من الحديد، وبعد ستمائة سنة من تجربة "روجر بيكون" الّتي أحدثت الوميض والفرقعة الّتي كان لها قصف الرعد.
ولقد جاءت هذه الخطوة عندما حاول إيطالي اسمه "إسكانيو سوبريرو" متابعة الأسطورة القديمة، أسطورة جمع عدّة مواد معا لمعرفة ماذا يمكن أن يحدث من هذا الجمع، لقد مزج مادّة حامض النيتريك بالجلسرين، فأوجد سائلا مركّبا هو "نيترات الجلسرين" فكان للمادة الجديدة انفجارها الشديد الّذي يزيد أضعافا مضاعفة على قوّة انفجار البارود القديم.
كان "سوبريرو" مثل "روجر بيكون" رجلا يستمتع بالتجارب لذاتها فهو لم يعن باستخدامها، وقد جربت مادة "نيترات الجلسرين" الّتي اكتشفها هو بعد سنوات بواسطة أناس آخرين، فوجدوها تحدث انفجارا جيّدا، كما اكتشفوا أنّها مادة خطرة، فهي تنفجر عادة إذا ما وضعت في دن مغلق.
على أنّ استخدام نيترات الجلسرين لنسف وتفتيت الصخور أوضح أنّها لسيولتها تنساب في شقوق الصخور قبل أن يوضع "الفتيل" الّذي يلهبها، وهكذا ظلّت المواد المفرقعة في حاجة إلى عبقري يصل بها إلى الشكل العملي الأمثل في استخدامها.
وفي القرن التاسع عشر بدأ كيميائي سويدي اسمه "ألفريد نوبل" يبحث عن وسيلة لاستخدام نيترات الجلسرين استخداما عمليّا، واعتقد "نوبل" أن هذا سيكون أيسر وأأمن لو أمكن مزج نيترات الجلسرين بمادة خاصة تمتص السائل، وهكذا عمد "نوبل" إلى تجريب الكثير من المواد فمزج النيترات بمادة هلامية جلاتينيّة، وكان الامتصاص جيدا، ولكن الاشتعال لم يكن جيدا، وجرّب "نوبل" نشارة الخشب، كما جرّب فحم الحطب، ولكنّهما لم يحقّقا أمن الاستعمال، وكانت علّة المشكلة هذه المرّة بسبب اشتعال نيترات الجلسرين وحدها عندما تلامس أي شيء ينبت من الأرض.
وهنا- كما يحدث غالبا - جاء الحل للمشكلة دون توقّعه، فقد وصل "ألفريد نوبل" إلى ما يطلبه من نيترات الجلسرين محزوما في مادة خفيفة الوزن من راسب ترابي اسمه "كسيلجور" وهي مادة معروفة جيدا في السويد وشمال ألمانيا، وتصنع من قواقع حيوانات البحر الصغيرة منذ آلاف السنين.
وفي سنة 1876م قام "نوبل" بتجربته مستخدما مادة التغليف هذه لامتصاص نيترات الجلسرين، ووضح أنه عندما تبتل بنيترات الجلسرين جيدا يمكن ضغطها في عصي صغيرة يسهل حملها، كما يكون حاملها آمنا، فإذا ما وضعت واحدة من هذه العصي في ثقب شق الصخور فإنّها تنفجر وتفتّت الصخر، وأطلق "ألفريد نوبل" على اختراعه الجديد اسم "الديناميت" وكان هذا أول المواد الّتي نقول عنها أنّها شديدة الانفجار.
واصل "نوبل" تجاربه في معمله الصغير بروح يحدوها الأمل في تحقيق الهدف، وكان كلّما واجهته المشاكل، أو فشلت إحدى تجاربه، يبدأ من جديد، فيبحث عن أسباب الفشل، ويتلمّس جذور المشكلة، ثمّ يبدأ في مواصلة البحث والتجريب ضاربا عرض الحائط بكل المخاوف الّتي راودته حول إمكان تعرّض حياته للخطر من جرّاء التجارب الّتي يجريها على المتفجرات.
وبعد مجهودات شاقّة توّصل "نوبل" إلى الطريقة الّتي ظلّ يبحث عنها والّتي يمكنه بها أن يجعل مادة النيتروجلسرين مادّة آمنة، وكانت الطريقة الّتي توصّل "نوبل" إلى اختراعها عام 1866م هي طريقة اختراع "الديناميت". وفي نفس السنة الّتي اخترع "نوبل" فيها الديناميت، راح يجري الكثير من التجارب لاختباره والتأكّد من درجة الأمان في استخدامه.
وفي نفس العام حصل "نوبل" على براءة اختراع الديناميت، وهي البراءة الّتي تعني نجاح الاختراع والاعتراف ضمنا بعبقريّة صاحبه ومكانته العلميّة وفضله على العلم، وكان من الممكن أن يتوقّف "نوبل" عند هذا الحد، بعد أن حقق حلمه الكبير، وأصبح في مقدمة قائمة العلماء الّذين سيخلد التاريخ ذكراهم، إلاّ أنّ طموح "نوبل" لم يكن من النوع الّذي يقف عند هذا الحد.
ولقد واصل "نوبل" أبحاثه وتجاربه بعد ذلك، في الكيمياء عموما، وفي كيمياء المتفجرات خصوصا، وتمكّن "نوبل" من التوصّل إلى إنجاز الكثير من المنجزات العلميّة العظيمة، وبدأت شهرته في الاتساع، وبدأ اسمه يتردّد في الأوساط والمجامع العلميّة، وبدأ "نوبل" يجني ثمار إنجازاته، فتحسّنت حالته المادية بالتدريج إلى أن أصبح من الأثرياء. وهكذا حقٌق "نوبل" الشهرة والثراء بعبقريّته الفذة وإصراره العنيد.
كانت الثروة الّتي حقٌّقها "نوبل" من اختراع الديناميت ثروة طائلة، وقد تمكّن بفضل هذه الثروة من توسيع نطاق أبحاثه وتجاربه ومشاريعه العلميّة، وهكذا تمكّن من مواصلة النجاح، وتحقيق المزيد من الإنجازات العلميّة الرائعة، وتوالت أعمال "نوبل" العبقريّة، وسجّلت باسمه عشرات الاختراعات الّتي حقٌّقت له الشهرة والمجد.
لقد عاش "نوبل" ليجني ثمار نجاحه العظيم من المجد والشهرة والمال، لكنّه مع ذلك لم يشعر بالفرح والسعادة. ولم تغمره زهرة الانتصار أو نشوة المجد والشعور بالعظمة. إذ سرعان ما تحوّل إختراع الديناميت إلى أداة مدمرة فتاكة في أيدي مثيري الفتن والصراعات وتجار الحروب.
عندئذ شعر "نوبل" بخطورة العمل الّذي قام به، وأدرك أنّ العلم يمكن استخدامه في تدمير الحياة البشريّة، كما يمكن استخدامه لإسعاد الإنسانية، وقد استبدّ به هذا الشعور أكثر خاصّة عندما اخترع "الباليستايت" وهو مادّة أكثر وأشد فتكا وتفجّرا من الديناميت.
وبسبب هذا الشعور ظلّ "نوبل" يؤنّب نفسه، ويراجع أفكاره متشكّكا في صدقها، وكأنّه كان يقول لنفسه:
- هل حقا كنت أريد الخير للإنسانية عندما اخترعت الديناميت؟
- هل كنت أسعى إلى تحقيق المجد الشخصي أو كنت أسعى لخدمة العلم والبشريّة؟
- هل كنت أبغي التقليل من الحروب ونشر الأمن والسلام، أو كنت أضع بين أيدي الجبابرة والطغاة وتجّار الحروب وسماسرة أقوات الشعوب أفتك الأسلحة وأشدّها تدميرا وإهلاكا للأرواح؟.
هكذا كان "نوبل" يراجع نفسه ويقسو عليها بهذه الأسئلة وأمثالها، وقد بلغت به قسوته على نفسه إن اتهمها بالأنانية وعدم الصدق مع الذات، فكان بذلك على وشك أن يفقد ثقته بنفسه، لكن عدل عن موقفه هذا عندما قرّر أن يثبت للعالم كلّه حسن نيّته.
لم يجد "نوبل" طريقة لإثبات حسن نيّته للعالم كلّه سوى أن يوصى بأن تخصّص كل ثروته بعد موته لتقديم جوائز عالميّة لأهل العلم، والّذين يعملون على تحقيق الأمن ونشر السلام في العالم.
وبهذه الطريقة أثبت "نوبل" بالفعل أنّه لم يكن يهدف إلى تحقيق الثروة باختراع الديناميت وغيره من المواد الشديدة الانفجار، إنّما كان كل هدفه أن يقدّم أجل وأعظم الخدمات للإنسانيّة، فقد ساهم اختراع الديناميت بالفعل في تقدّم الحياة البشريّة، وكانت الجوانب الإيجابيّة لهذا الاختراع أكثر وأعظم وأجلّ بكثير من الجوانب والآثار السلبيّة له.
ولكي ندرك مدى أهميّة اختراع "نوبل" للديناميت، وندرك - أيضا - جوانب عظيمة شخصيّة "نوبل" وعبقريّته الفذّة، علينا أن نرجع إلى الوراء، مع التاريخ، لعشرات القرون، وعلينا أن نتصوّر شكل الحياة بدون أعظم المخترعات الّتي قدّمتها العقول العبقريّة عبر التاريخ، والدّيناميت - ذاته - كاختراع يأتي في مقدمة الإنجازات العلمية الّتي ساهمت بالفعل في تطوير الحياة الإنسانيّة وتقدمها.
ولكي ندرك إلى أي مدى كانت عبقريّة نوبل من العبقريّات الفذّة، علينا أن نعرف أن هناك العشرات من العقول العبقريّة الّتي ظهرت عبر التاريخ، وحاولت قبله أن تتوصّل إلى أسرار المواد المتفجرة، لكنّها لم تفلح، وعجزت كلّها في أن تتوصّل إلى تحقيق الإنجاز العبقري الّذي توصّل "نوبل" وحده بعبقريّة ممتازة متفردة إلى تحقيقه.
ومعنى ذلك أن هناك الكثير من المحاولات السابقة على "نوبل"، وكلّها محاولات سجّلها تاريخ العلم، وحاول العلماء من خلالها أن يحقّقوا ما حقّقه "نوبل" لكنّهم فشلوا جميعا.
قبل أن يظهر "ألفريد نوبل" عبقري القرن العشرين، الّذي توصّل إلى اختراع الديناميت، كان هناك العديد من العلماء الّذي حاولوا صناعة المفرقعات، وكان قبل هؤلاء العلماء من حاول أيضا أن يتوصّل إلى صناعة المفرقعات، فقصّة المفرقعات والمواد المتفجرة قصّة طويلة يرجع تاريخها إلى زمن طويل حتّى قبل "روجر بيكون" الّذي أجرى أول تجربة على البارود.
كان البارود على حد قول "فلتشر برات" هو: أوّل مواد المفرقعات ولكنّنا لا نعرف من الّذي اخترعه، ففي العصر الوسيط عندما اخترع البارود كان الناس يغرمون بمزج الأشياء معا لمعرفة ماذا سيحدث من هذا المزج، ولهذا كان من الطبيعي أن يمزج شخص ما ثلاث مواد معروفة، هي: نيترات البوتاسيوم أو نيترات الصوديوم والكبريت والفحم النباتي، كما يمكن أن يمزج أي مواد أخرى يجدها على مقربة منه أو فيما حوله من مواد، ونيترات البوتاسيوم أو الصوديوم كان يستطيع العثور عليها أسفل أي كومة من السماد (السّباخ)، لذلك كان من السهل دائما الحصول على هذه المواد، كما كان من السهل الحصول على الكبريت حيثما توجد البراكين، وكذلك كان الفحم النباتي يوجد في كل المنازل.
وأول من يحدّثنا عن تجربة البارود رجل اسمه "روجر بيكون" كان راهبا إنجليزيا، وكان شغوفا بمعرفة كل شيء من حوله في الطبيعة، وفي عام 1242م كتب كتابا قال فيه: إنّه قد مزج نيترات البوتاسيوم بالكبريت والفحم النباتي، ثم أشعل هذه المواد بعد مزجها معا، فحدث وميض صحبه صوت كقصف الرعد، ويمكن أن ندعو هذا الّذي حدث "فرقعة" أو"انفجارا".
ومع أنّه قد يبدو من هذا أن الراهب بيكون قد اكتشف البارود، إلاّ أنّه لم يعتبر مخترعه، ومن ثمّ فهو لا يستحق أن ينسب إليه، فلقد اخترع أو اكتشف الكثيرون من الناس أشياء ظنّوها ليست ذات نفع عملي، ومع أنّهم قد كتبوا عمّا وصلوا إليه، ولكنّهم سرعان ما نسوا هذا كلّه وكأنّه لم يكن، وكان هذا أيضا هو نفس ما فعله "روجر بيكون"، إذ كان كل ما يعنيه هو أن يراقب الانفجار، ولكنّه لم يحاول أن يستخدمه في شيء ما.
وكان الرجل الّذي فكّر في استخدام البارود راهبا اسمه "برثولد شوارتز" عاش في ألمانيا بعد مائة سنة من عصر "روجر بيكون"، وقد خطرت لشوارتز هذا فكرة وضع بعض هذه المواد معا في أنبوبة من الحديد أغلق أحد طرفيها إغلاقا محكما، تاركا ثقبا صغيرا ليدخل منه اللهب، ثمّ وضع فوق المسحوق قطعة من الحجر، فلمّا أشعل النار وانفجر المسحوق قذف الانفجار بقطعة الحجر، وهكذا اخترع "برثولد شوارتز" المدفع.
وكان هذا اختراعا له أهميّته، فقبل اختراع المدفع كان النّصر في المعركة يقف دائما إلى جانب من هم أكثر عددا، وأحد أسباب سقوط إمبراطوريّة روما أنّه لم يتوافر رومانيون لصدّ رجال القبائل المتوحشة الّتي جاءت من الشمال، ولكن بعد أن أتمّ الراهبان بيكون وشوارتز علمهما، أمكن للعدد القليل من الرجال الّذي يتسلّحون بالمدافع أن يصدّوا عن بلادهم عددا كبيرا من المقاتلين الّذين يحملون السيوف والحراب، ولم تكن الولايات المتحدة لتستوطن، لو لم يكن لدى المستوطنين مدافع ردّوا بها الهنود الحمر على أعقابهم.
ولقد كان لاختراع البارود أيضا أهميّته من ناحية أخرى، فقبل اختراعه كان أي أمير ثري يتدثّر بدرعه يستطيع أن يقهر أي عدد من الرجال الّذين لا يتوافر لهم مثل هذا الرّداء من الصّلب، وكان الأمير يستطيع أن يعيش في قلعته آمنا مطمئنّا، لأنّه يعرف أن أحدا لن يصل إليه، ومكّن الراهبان "بيكون وشوارتز" الناس من أن يعيشوا آمنين لا يقلقهم أن يغتصب منهم أمير ما يملكون.
على أن هذا لم يكن كل ما حقّقه اختراع البارود، فقبل اختراع البارود كان الناس يستخدمون الإزميل، أو المنحات والفأس والمعول أو غيرها من الآلات اليدويّة لانتزاع الأحجار من الأرض، وكان حفر الأرض لإخراج الأحجار يتطلّب جهدا إلى حد أنّه لم يكن يشيّد من الأحجار سوى الكنائس ودور الحكومة وقصور وقلاع الأثرياء، ولكن عندما أمكن نسف الصخور وتكسيرها بالبارود، أمكن لكل فرد أن يشيّد بيتا من الأحجار.
واليوم نصل إلى كل ما يمكن انتزاعه من باطن الأرض بواسطة المفرقعات، فالفحم والحديد والألمنيوم وغيرها من المعادن الأخرى يجب أن تنتزع كلّها من الصخور الّتي تخفيها أسفلها، ولولا ما قام به الراهبان "بيكون وشوراتز" لبقيت كل هذه المعادن التي نستخدمها اليوم مختزنة في باطن الأرض، نادرة الاستعمال، غالية الثمن.
ولكن المفرقعات الّتي تفعل لنا هذا كله اليوم هي في الواقع بعيدة جدا عن البارود، فقد تمّت خطوة أخرى بعد خمسمائة سنة من إشعال "برثولد شوارتز" المادة الّتي وضعها في أنبوبة من الحديد، وبعد ستمائة سنة من تجربة "روجر بيكون" الّتي أحدثت الوميض والفرقعة الّتي كان لها قصف الرعد.
ولقد جاءت هذه الخطوة عندما حاول إيطالي اسمه "إسكانيو سوبريرو" متابعة الأسطورة القديمة، أسطورة جمع عدّة مواد معا لمعرفة ماذا يمكن أن يحدث من هذا الجمع، لقد مزج مادّة حامض النيتريك بالجلسرين، فأوجد سائلا مركّبا هو "نيترات الجلسرين" فكان للمادة الجديدة انفجارها الشديد الّذي يزيد أضعافا مضاعفة على قوّة انفجار البارود القديم.
كان "سوبريرو" مثل "روجر بيكون" رجلا يستمتع بالتجارب لذاتها فهو لم يعن باستخدامها، وقد جربت مادة "نيترات الجلسرين" الّتي اكتشفها هو بعد سنوات بواسطة أناس آخرين، فوجدوها تحدث انفجارا جيّدا، كما اكتشفوا أنّها مادة خطرة، فهي تنفجر عادة إذا ما وضعت في دن مغلق.
على أنّ استخدام نيترات الجلسرين لنسف وتفتيت الصخور أوضح أنّها لسيولتها تنساب في شقوق الصخور قبل أن يوضع "الفتيل" الّذي يلهبها، وهكذا ظلّت المواد المفرقعة في حاجة إلى عبقري يصل بها إلى الشكل العملي الأمثل في استخدامها.
وفي القرن التاسع عشر بدأ كيميائي سويدي اسمه "ألفريد نوبل" يبحث عن وسيلة لاستخدام نيترات الجلسرين استخداما عمليّا، واعتقد "نوبل" أن هذا سيكون أيسر وأأمن لو أمكن مزج نيترات الجلسرين بمادة خاصة تمتص السائل، وهكذا عمد "نوبل" إلى تجريب الكثير من المواد فمزج النيترات بمادة هلامية جلاتينيّة، وكان الامتصاص جيدا، ولكن الاشتعال لم يكن جيدا، وجرّب "نوبل" نشارة الخشب، كما جرّب فحم الحطب، ولكنّهما لم يحقّقا أمن الاستعمال، وكانت علّة المشكلة هذه المرّة بسبب اشتعال نيترات الجلسرين وحدها عندما تلامس أي شيء ينبت من الأرض.
وهنا- كما يحدث غالبا - جاء الحل للمشكلة دون توقّعه، فقد وصل "ألفريد نوبل" إلى ما يطلبه من نيترات الجلسرين محزوما في مادة خفيفة الوزن من راسب ترابي اسمه "كسيلجور" وهي مادة معروفة جيدا في السويد وشمال ألمانيا، وتصنع من قواقع حيوانات البحر الصغيرة منذ آلاف السنين.
وفي سنة 1876م قام "نوبل" بتجربته مستخدما مادة التغليف هذه لامتصاص نيترات الجلسرين، ووضح أنه عندما تبتل بنيترات الجلسرين جيدا يمكن ضغطها في عصي صغيرة يسهل حملها، كما يكون حاملها آمنا، فإذا ما وضعت واحدة من هذه العصي في ثقب شق الصخور فإنّها تنفجر وتفتّت الصخر، وأطلق "ألفريد نوبل" على اختراعه الجديد اسم "الديناميت" وكان هذا أول المواد الّتي نقول عنها أنّها شديدة الانفجار.
ليست هناك تعليقات:
حتى تصبح عضوا في الموسوعة المدرسية انزل إلى أسفل الصفحة